ما أحوجنا إلى رؤيته الشاملة للطبيعة وفهمه لمكان الإنسان داخل العالم الطبيعي
محمد - صلى الله عليه وسلم - رائد الحفاظ على البيئة
1 يناير 1970
10:11 ص
| كتب عبدالله متولي |
ترتفع الأصوات هنا وهناك المنادية بالحفاظ على البيئة وانقاذها من عبث الإنسان بها ما أدى إلى نشوء ظواهر سلبية خطيرة تزداد مخاطرها ومضارها يوماً بعد يوم على الإنسان بل وعلى كل الكائنات الحية التي تعيش على كوكب الأرض... هذه الظواهر السلبية من أمثال ثقب طبقة الأوزون، وظاهرة الاحتباس الحراري، وزيادة رقعة الماء على الأرض بعد الذوبان المتزايد في كتلة الجليد عند القطبين، وغيرها من الظواهر التي سببتها كثرة الملوثات البيئية على وجه الأرض وجميعها من افرازات المدنية الحديثة والمادية الطاغية وانسلاخ الإنسان من ربقة القيم والأخلاق ما جعله لا يهتم إلا بمصالحه الشخصية وتحقيق أطماعه في الحياة حتى وان كان ذلك يؤدي إلى تخريب الأرض وتدمير البيئة.
هذه الظواهر السلبية وانتشار الملوثات البيئية والخوف من الأضرار والمخاطر المحدقة بسببها دفع العلماء إلى المناداة بتخفيف وطأة التلوث وضرورة الحفاظ على البيئة، بل قامت أحزاب وشكلت جماعات على مستوى العالم للعمل في هذا الإطار.
الغريب اننا في هذا السياق نلتف حول الأفكار والنظريات الوضعية وهي بالتأكيد ايجابية... لكننا لم نفكر يوما في موقف الإسلام ونظريته للبيئة وكيفية المحافظة عليها. ولم نفكر يوما في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر، وهل كان له منهج فيه أم لا؟ وهل كانت البيئة تحتل حيزا في دعوته واهتماماته كما كانت اهتماماته بالدعوة والتعليم والتربية وغيرها من الأمور التي تبني الإنسان وتحافظ عليه وعلى حياته؟
لقد لفت هذا الجانب من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، نظر الكاتبة (فرانسيسكا دوشاتل) وهي صحافية هولندية وكاتبة متخصصة في انثروبولوجيا الثقافة الإسلامية، فكتبت بحثا جميلا ورائعا بعنوان «محمد صلى الله عليه وسلم رائد الحفاظ على البيئة»، وقام بترجمته الدكتور إبراهيم عوض، ونشرته موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.
بدأت الكاتبة بحثها بقولها:
جاء في الحديث النبوي: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة».
الواقع أن القول إن محمدا رائد من رواد الحفاظ على البيئة سيقع في آذان الكثيرين في البداية موقعا غريبا، إذ لا شك أن مصطلح «الحفاظ على البيئة» وما يرتبط به من مفاهيم مثل «البيئة» و«الوعي البيئي» و«ترشيد الاستهلاك» هي ألفاظ من اختراع العصر الحديث، أي مصطلحات صيغت لتواجه الاهتمامات المتزايدة بالوضع الراهن لعالم الطبيعة من حولنا.
ومع ذلك فإن قراءة الأحاديث النبوية عن قرب، أي تلك الروايات المتعلقة بالأحداث المهمة في حياة محمد، لترينا انه كان واحدا من أشد المنادين بحماية البيئة. بل ان بمستطاعنا القول إنه كان في نصرته للبيئة سابقا لعصره، أي رائدا في مجال المحافظة على البيئة والتطور الرشيد والادارة الحكيمة للموارد الطبيعية، وواحدا من الذين يسعون لإقامة توازن متناسق بين الإنسان والطبيعة. وبالاستناد إلى ما أوردته لنا الأحاديث من أعماله وأقواله يمكننا القول ان محمدا كان يتمتع باحترام عميق لعالم النباتات والأزهار وانه كان على صلة حميمة بعناصر الطبيعة الأربعة: التراب والماء والنار والهواء.
لقد كان محمد عليه الصلاة والسلام من الدعاة الأقوياء للاستخدام الرشيد للأرض والماء واستثمارهما، وكذلك المعاملة الكريمة للحيوانات والنباتات والطيور، والحقوق المتساوية لمن يتعاملون معها من البشر. وفي هذا السياق فإن حداثة رؤيته للبيئة وحداثة المفاهيم التي جاء بها في هذا المجال لما يَشْدَه العقل شَدْهاً، حتى لتبدو بعض أحاديثه وكأنها مناقشات عصرية حول قضايا البيئة.
• المبادئ الثلاثة
تنتقل الكاتبة بعد ذلك للحديث عن المبادئ التي تقوم عليها فلسفة النبي صلى الله عليه وسلم في الحفاظ على البيئة فتقول:
ان فلسفة محمد البيئية هي اولا وقبل كل شيء فلسفة شاملة مترابطة، اذ تقوم على ان هناك صلة اساسية وارتباطا متبادلا بين عناصر الطبيعة، كما ان نقطة انطلاقها هي الايمان بأنه اذا اساء الانسان استخدام عنصر من عناصر الطبيعة او استنزفه استنزافا فإن العالم الطبيعي برمته سوف يضار اضرارا مباشرة، على ان هذا الاعتقاد لا ينص عليه في حديث واحد نصا مباشرا، بل يمثل بالاحرى المبدأ الذي تنهض عليه جميع اقوال محمد وافعاله، انه فلسفة حياته التي على ضوئها نستطيع ان نبصر ملامح شخصيته.
ان اهم ثلاثة مبادئ في الفلسفة المحمدية المتعلقة بالطبيعة تقوم على تعاليم القرآن ومفاهيم الوحدانية وخلافة البشر والثقة في الانسان. ويمثل التوحيد حجر الزاوية في دعوة الاسلام، وهذا التوحيد يراعي الحقيقة التي تقول بوجود خالق واحد للكون وان الانسان مسؤول امامه عن اعماله: «لله ملك السموات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير» (المائدة /120).
ويقر محمد بان علم الله وقدرته يشملان كل شيء، ومن ثم كانت الاساءة إلى اي مخلوق من مخلوقاته، سواء كان كائنا حيا او مصدرا من مصادر الطبيعة، ذنبا من الذنوب يجازى الانسان عليه. وفي اعتقاده ان جميع مخلوقات الله متساوية امامه سبحانه، وان الحيوانات، وكذلك الارض والغابات وينابيع المياه، ينبغي ان يكون لها حقوق تحترم.
اما مفهوما الخلافة البشرية في الارض والثقة في الانسان فينبعان من مبدأ الوحدانية. ويوضح القرآن ان الانسان يتمتع بوضع متميز بين مخلوقات الله على الارض، اذ اصطفاه ليكن خليفة فيها وينهض بمسؤولية العناية بغيره من مخلوقات هذا الكوكب، وهذا واجب كل فرد فينا ووجه تميزه، ومجلى الثقة به، ورغم هذا نرى القرآن مرارا وتكرارا ينهى الانسان عن الكبر منبها اياه إلى انه ليس افضل من سائر المخلوقات: «وما من دابة في الارض ولا طائر يطير بجناحيه الا امم امثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون». (الانعام/ 38).
وكان محمد يؤمن بأن الكون بما فيه من مخلوقات: حيوانات كانت هذه المخلوقات او نباتات او مياها او ارضين، لم تخلق لتكون للبشر، صحيح ان لهم الحق في استخدام موارد الطبيعة، الا انهم لا يمكنهم ان يتملكوها تملكا.
ومن هنا ففي الوقت الذي يسمح الاسلام للانسان بحيازة الارض نراه يضع حدودا لذلك: فعلى سبيل المثال يمكنه ان يحوز الارض فقط طالما كان يستعملها، لكنه ما ان يكف عن هذا الاستعمال حتى يصبح واجبا عليه التخلي عن هذه الحيازة.
ويعترف محمد بمسؤولية الانسان اما ربه، بيد انه كان دائما وابدا يدعو إلى التواضع، ومن ثم نراه يقول: «ان قامت على احدكم القيامة وفي يده فسلة فليغرسها»، فهو هنا يبين انه، حتى عند انتفاء كل امل لدى البشر، على الفرد ان يحافظ على نمو الطبيعة. لقد كان مؤمنا ان الطبيعة حسنة في ذاتها حتى لو لم يستفد البشر منها.
وبالمثل نراه يحض اتباعه على التشارك في موارد الطبيعة، اذ يخاطبهم قائلا: «المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار». كما يعد حرمان العطشان من الماء اثما يعاقب عليه: «من منع فضل مائة او فضل كلئه منعه الله فضله يوم القيامة».
والواقع ان موقف محمد عليه السلام تجاه الاستعمال الرشيد للارض والمحافظة على الماء والطريقة التي كان يعامل بها الحيوانات هو دليل آخر على التواضع الذي يصبغ فلسفته حول البيئة.
• الاستخدام الرشيد للأرض
وفي لمحة رائعة تعرج الكاتبة على نظرة الاحترام من قبل النبي صلى الله عليه وسلم للارض وللتربة فتقول:
«جعلت لي الارض مسجدا وطهورا» في هذا الحديث يؤكد محمد عليه السلام الطبيعة المقدسة للارض او التربة، لا بوصفها ذاتا طاهرة فحسب، بل بوصفها مادة مطهرة كذلك. ويظهر ايضا هذا الاحترام للارض في شعيرة التيمم التي تجيز للمسلم استعمال التراب في الطهارة الواجبة عند الصلاة في حالة فقدان الماء.
وينظر محمد عليه السلام إلى الارض على انها مسخرة للانسان، لكن لا ينبغي له مع ذلك ان يفرط استخدامها او يسيء استعمالها، كما ان لها ذات الحقوق التي للاشجار والحيوانات البرية التي تعيش فوقها، ومن اجل المحافظة على الارض والغابات والحيوانات البرية جعل محمد عليه السلام عددا من المحميات، اي الاماكن التي يحرم فيها استعمال الموارد الطبيعية، وهو ما لا يزال معروفا إلى اليوم، اذ هناك مناطق ممنوعة حول بعض الآبار وعيون الماء غايتها حماية المياه الجوفية من الاستهلاك المفرط والنفاد. ومنها المناطق الخاصة بالحيوانات البرية والغابات حيث يمنع الرعي وقطع الاشجار او يحرم التعرض لانواع معينة من الحيوانات.
ولم يشجع محمد فقط الاستعمال الرشيد للارض، بل لفت انظار اتباعه ايضا إلى المكاسب التي يجنيها الانسان من احياء الارض البور، اذ جعل زرع شجرة او غرس بذرة او سقي ارض عطشى من اعمال البر والاحسان: «من احيا ارضا ميتة فله فيها اجر». وعلى هذا فأيما شخص ساق الماء إلى قطعة أرض قاحلة فهي له.
• المحافظة على الماء
أما الماء الذي هو أصل الحياة فكيف كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم معه؟ في هذا السياق ترى الكاتبة أن البيئة الصحراوية الخشنة التي كان يعيش فيها محمد عليه الصلاة والسلام يُعد الماء مرادفاً للحياة، فهو نعمة من الله، بل هو أصل الحياة كما يشهد بذلك القرآن: «وجعلنا من الماء كل شيء حي» (الأنبياء:30). ويذكّر القرآن المسلم على الدوام بأنه خليفة الله في الأرض، لكن لا ينبغي له مع ذلك أن يأخذ الأشياء المخلوقة على انها أمر مسلم به: «أفرأيتم الماء الذي تشربون أأنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون لو نشاء جعلناه أجاجاً فلولا تشكرون» (الواقعة 68-70).
كذلك كان الاقتصاد في الماء والمحافظة على طهارته قضيتين مهمتين عند محمد عليه الصلاة والسلام. ولقد رأينا كيف ادى اهتمامه بالاستخدام الرشيد للماء الى اقامة المحميات بالقرب من ينابيعه. وحتى عندما يكون الماء متوفراً نراه ينصح بالاقتصاد في استعماله. ومن ذلك نهيه عن غسل أعضاء الوضوء أكثر من ثلاث مرات حتى لو كان المتوضئ على نهر جار. ويضيف البخاري قائلاً: «وكره أهل العلم الاسراف فيه وأن يجاوزوا فعل النبي صلى الله عليه وسلم». وبالمثل نهى محمد عليه الصلاة والسلام عن تلويث المياه، وذلك بمنع التبول في الماء الراكد.
• معاملة الحيوان
أما عن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع الحيوان واحترامه له ورحمته به فتقول الكاتبة:
يقول محمد عليه الصلاة والسلام: «من قتل عصفوراً فما فوقها بغير حقها سأل الله عز وجل عنها يوم القيامة».
وهو حديث يعكس إجلال محمد عليه الصلاة والسلام واحترامه وحبه للحيوانات. ذلك أنه كان يعتقد أنها، بوصفها خلقاً من خلق الله، ينبغي ان تحظى بمعاملة كريمة، ففي الأحاديث النبوية عدد ضخم من الروايات والتوجيهات الخلقية والقصص التي ترسم لنا صورة عن علاقته بالحيوانات. وبعض هذه القصص ترينا أنه كان يهتم اهتماماً خاصاً بالإبل والخيول: فهما في رأيه نعم الرفيق في الأسفار والحروب، كما كان يجد كثيراً من الراحة والحكمة في صحبتهما حسبما يقول لنا الحديث التالي: «الخيل معقود بنواصيها الخير الى يوم القيامة».
وحتى في ذبح الحيوان نجده يبدي قدراً عظيماً من الرقة والمرحمة. وعلى الرغم من انه لم يكن نباتياً فإن الأحاديث تبين لنا بوضوح انه كان حساساً للغاية تجاه معاناة الحيوانات حتى لكأنه كان يشاركها ألمها مشاركة وجدانية. ومن هنا نجده يأمر باستعمال سكين حاد في الذبح واتباع طريقة مسؤولة من شأنها ان تزهق روح الحيوان سريعاً بحيث يخف ألم الذبيحة الى اقصى درجة ممكنة. كما نهى عن ذبح أي حيوان أمام غيره من الحيوانات او احداد الشفرة بحضرته، وإلا فكأنه قد ذبحه مرتين حسبما جاء في حديثه لمن كان يُحد شفرته في حضور ذبيحته، اذ قال له مستنكراً: «أتريد أن تميتها موتتين؟ هلا أحددت شفرتك قبل أن تضجعها؟». لقد كان يكره ذلك كراهية شديدة.
وتختم الكاتبة بحثها الرائع بالدعوة الى اتباع فلسفة النبي صلى الله عليه وسلم في الحفاظ على البيئة باعتبارها فلسفة مهما كتبنا وقلنا فيها فلن نوفيها حقها، فتقول:
من المستحيل ايفاء المدى الذي بلغته فلسفة محمد عليه الصلاة والسلام البيئية، وكذلك الأهمية التي تستأهلها، حقهما في هذه المقالة القصيرة، فرؤيته الشاملة للطبيعة وفهمه لمكان الإنسان داخل العالم الطبيعي هما رؤية وفهم رائدان في مجال الوعي البيئي لدى المسلمين.
وللاسف فإن الانسجام الذي دعا اليه محمد عليه الصلاة والسلام بين الإنسان وبيئته قد تم تجاهله في أيامنا هذه الى حد بعيد. وفي الوقت الذي نواجه فيه اثار التلوث والاسراف في استخدام موارد الطبيعة والتصحير وشح الماء في بعض الأماكن في العالم مع المعاناة من الفيضانات والعواصف في غيرها من الأماكن ربما يكون من الملائم بالنسبة لنا جميعاً: مسلمين ونصارى ويهوداً وهندوساً وبوذيين وملاحدة أن نأخذ ورقة من كتاب محمد عليه الصلاة والسلام ونواجه الأزمة البيئية الحالية بجد وحكمة.