عظماء في مدرسة النبوة

الصحابي الجليل أبو عقيل الأنيفي سيف من سيوف الحق وأحد أبطال «اليمامة»

1 يناير 1970 01:58 ص
| بقلم: محمد الجوهري |
بعدما انتقل خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم إلى جوار ربه مضى موكب النور يفد السير في الشعاب والفيافي المقفرة، تتقد الصدور حماسة وتمتلئ النفوس ايمانا يحثون الخطى، الشوق، الرغبة العارمة في سويداء تلك القلوب ذات الوجوه المتعطشة لإحراز احدى الحسنيين.
- حمل هؤلاء راية الاسلام وعضوا عليها بالنواجذ نسوا كل ما يشغلهم عن اعلاء ذلك الرمز ونصر هذا اللواء، وضع كل منهم الدنيا وزخرفها تحت اقدامه لم يضعوها نصب اعينهم كما هو حالنا اليوم فقد ركنا إلى ترفها وجميعنا نلهث وراءها بسعي حثيث.
- هناك رجال كانوا بين تلك الرموز الساطعة ظلمهم كتاب التاريخ ولم يعطوهم ادنى قدر مما يستحقونه من ذكر بين طيات صفحات كتب التاريخ، انهم اصحاب شأن عظيم وقدر كبير، ناهيك عن نسيان المسلمين لهم ولسيرتهم هؤلاء الابطال رموز شامخة تمثل محطات مهمة في تاريخ ديننا الحنيف الذي مر في بداية الدعوة بفترات حالكة السواد ومحن جسام.
من هؤلاء الابطال القمم رجل لم يأخذ حقه من الذكر في الكتب التي دونت وسطرت بطولات الصحابة والمجاهدين الاوائل، انه سيف من سيوف الحق بذل روحه رخيصة من اجل اعلاء كلمة التوحيد ضحى من اجل ما آمن به من مبادئ واسس ترسخت في عقله وقلبه، هذا البطل الباسل هو «ابو عقيل الأنيفي» رضي الله عنه وارضاه وادخله فسيح جنانه، لقد ترك لنا هؤلاء الرموز تراثا زاهرا.
- في حروب الردة التي قادها رفيق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ابو بكر الصديق رضي الله عنه وارضاه ظهر دور هذا الصحابي الجليل، ان صاحبه النبي الكريم نجوم متلألئة بزغت في ليل مدلهم كانت حروب الردة نتاج ارتداد بعض ضعاف النفوس الذين حنوا إلى متعة الرذيلة والعيش كالانعام، اصبح ابو عقيل ومن معه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كالغيث المغيث الذي يبدد رياح الكفر والردة ويطفئ نارها في المهد قبل ان تقضي على دعوة الحق والنور.
- بينت تلك المحنة التي ألمت بالإسلام والمسلمين من اسلم عن عقيدة وايمان راسخين ممن كان النفاق دربه ومسكله.
ضرب بعض الصحابة في تلك المعارك اروع صور البطولة والفداء من هؤلاء الاجلاء «ابو عقيل الانيفي» الذي نذر روحه في سبيل الله، تحدث بلغة الدم في ميادين الشرف والتضحية كي تصمت كل اللغات الاخرى، كانوا كالجبال الشامخة، هذه الكوكبة هم خيول الله واحباؤه واكبت تضحياتهم ارتداد الكثيرين من ضعاف العقيدة المرتدين.
من صولات وجولات هذا الصحابي الجليل معركة اليمامة فقد كان من اسودها الكاسرة وكما كان المسلمون مستعدين لبذل كل شيء مهما كان من اجل تحقيق ما يؤمنون به كان جيش الشرك هو ايضا يحارب عن ايمان واخلاص غير عادي للباطل، قائد جيش الشرك في تلك المعركة هو «مسيلمة الكذاب» لعنه الله في الدنيا والآخرة، هذا الكويفر ادعى النبوة وانضم اليه نفر كثيرون من اعداء الإسلام والمرتدين.
بدأت المعركة واشتد القتال، تطايرت الاشلاء، ثبت الرجال وهرب الجرذان، انشقت الارض عنه، كان رضي الله عنه كالاعصار اجتاح صفوف جيش الباطل وقضى على كل ما اعترضه من جنود المشركين، قتل من قتل وجرح من جرح، حتى خارت قواه وامتلأ جسده بالجروح والاصابات كان اقتلها اصابة بالغة بين ذراعه اليسرى وكتفه، فقد كانت ذراعه معلقة بكتفه ولم يمكن معالجتها والحل الوحيد هو البتر لكن اين؟ وكيف؟ ومتى؟ والجميع مشغول في ارض المعركة.
ظل الدم يتدفق من جرح هذا المجاهد البطل، صاحب النفس المؤمنة المطمئنة والقلب المفعم بالايمان الصادق، قام نفر من المسلمين بأخذه الى خيمة قريبة كي يتم مداواته فقد كانت الهيجاء حامية الوطيس، وتحتاج إلى رجال اولي بأس وقوة «مسيلمة الكذاب» ورفاقه عددهم كبير يفوق عدد جيش المسلمين بكثير، اضف إلى ذلك انهم يقاتلون بشراسة وكأنهم يدافعون عن حق وعقيدة دافعهم في ذلك عصبية الجاهلية، اشتد الكر والفر المسلمون يريدون القضاء على هذا الملعون الذي يدعي النبوة وهي منه براء لطالما قال انا نبي مثل محمد مع انه من احط مخلوقات الله عز وجل.
اثناء القتال شوهدت علامات الضعف على بعض صفوف جيش المسلمين مما كان له بالغ الاثر على كثير منهم وخصوصا الانصار الذين ظهر الضيق عليهم من جراء ذلك وتكدرت نفوسهم ونادوا بأن يكونوا في مقدمة جيش الحق والا يختلط بهم احد الانصار اصحاب ارواح طاهرة ثائرة استهانوا بالدنيا وزخرفها شأنهم في ذلك شأن من رباه المعلم الاعظم محمد صلى الله عليه وسلم آخر من يحمل خبر السماء إلى الارض.
مضوا يجمعون بعضهم استعدوا لبيعة الموت...!
اخذ احد الانصار ينادي (يا معشر الانصار كرة كيوم حنين.... يا معشر الانصار كرة كيوم حنين) وتجمع الانصار حول المنادي من كل بقعة في ساحة المعركة، هم يتباهون بأنهم أنصار محمد صلى الله عليه وسلم وهذا شرف لا يضاهيه شرف ورفعة ممزوجة بالسمو.
كانت هذه الدعوة بمثابة كلمة السر، مفتاح النصر لجند الحق في تلك المعركة يا إلهي! اي نفس؟ اي قلب وعقيدة يمتلكها هؤلاء الرموز الخالدة؟ تلك الارواح الملائكية المليئة باشتياق جارف الى لقاء المولى عز وجل، انها اصلاب تفجر ينابيع التضحية والفداء كي تسود شريعة السماء اتحدت قلوبهم وغاياتهم فلم يبق إلا انتظار وعد الخالق عز وجل، لقد استقرت في افئدتهم وجوارحهم حقيقة مفادها ان الجهاد دلالة مكملة لحقيقة الايمان، والجهاد انواع وهو في هذا الموقف جهاد بالنفس والروح والصبر على الهزيمة وعلى النصر، نعم فالصبر على النصر اشق من الصبر على الهزيمة، ان مثل هذه المواقف التي مر بها الاسلام والمسلمون بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم كانت الطريقة الفعالة لتمحيص نفوس المسلمين وتنقيتها من الشوائب المتمثلة في المرجفين، المنافقين وضعاف القلوب، ادعاء شيطان مثل «مسيلمة» للنبوة كان يؤرق كل المسلمين الغيورين على دينهم المحبين لنبيهم بل ويقض مضاجع كافة الموحدين، من الرجال من يسطع نجمه ويزداد تألقه بعدما يقضي نحبه، واي قضاء هذا اروع من الشهادة في سبيل الحق، ربح ورب الكعبة من كانت حياته صادقة ومواقفه مؤثرة وكلها في سبيل انهم قمم منسية ضحوا بحياتهم من اجل دينهم، هم رموز لن تصدأ ابدا مهما طال الزمن سيظلون خالدين حتى قيام الساعة وسيظل بريقها يشع ابد الدهر.
وقع النداء في اذن «ابو عقيل» وهو يداوى في الخيمة وما هي إلا لحظات حتى هب وقد نسي جرحه الغائر، وتحول إلى نمر جريح واخذ يتحرك باتجاه الصوت، بينما هو كذلك رآه عبدالله بن عمر رضي الله عنهما وقال له: اين تذهب يا رجل؟ ان ذراعك تكاد تسقط فكان رده: ألا تسمعهم ينادون علي؟ انما ينادون على الانصار! وانا من الانصار ثم ردد عبارة تقشعر لها ابدان المسلمين «الاحياء فقط» قائلا: (والله الذي لا إله إلا هو لو كنت لا استطيع ان البي النداء الا حبوا لفعلت).
اي بشر هؤلاء! لم يبال بجسده الدامي او انه جريح وهذا عذر يسقط عنه التكليف الخاص بالقتال، انهم عظماء تربوا في المدرسة المحمدية لذلك فلن تجد لهم نظيرا، ان ارواحهم الفذة لا تتحمل البعد عن ساحات المجد والخلود، لذلك كان النصر حليفهم ليت كل مسلم ومسلمة يستشعران حجم هذه التضحيات العظيمة الحق ان هؤلاء الرجال قد سقوا جذور الدين الاسلامي بدمائهم حتى اشتدت وكبرت شوكتها، جزاهم الله عنا خير الجزاء، وحق لهم دخول الجنة بل والنعمة التي لا يضاهيها شيء وهي النظر إلى نور وجه المولى عز وجل باذنه ومشيئته.
لقد برعوا في سوس نفوسهم البشرية التي تميل إلى الراحة والدعة والامر بالسوء، فكان لهم ما ارادوا من عزة لله ولرسوله وللمؤمنين، تحامل هذا البطل على نفسه وقوي على جراحه الدامية المثخنة وظل يقاتل بشراسة وهو يردد «يا للانصار كرة كيوم حنين» والهدف من وراء ترديده لتلك المقولة هو تذكير الانصار بما قاموا به من بلاء حسن واظهارهم لعمق الحب الذي يتبادلونه مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
توهج القتال في المعركة وانطلق الانصار كالطوربيد وشقوا طريقهم في قلب جيش مسيلمة الكذاب عليه من العذاب ما يستحق هو ومن سار على دربه، وابلى الانصار بلاء حسنا ومزقوا صفوف جيش المشركين واخذ الذبح مسلكه في صفوف جيش هذا المشعوذ وانتصر الله لجنده، وسقط عدد كبير من كوكبة الانصار الاطهار احباب رسول الله صلى الله عليه وسلم شهداء ليلحقوا به في جنات الخلد والنعيم الابدي، التي اعدت للمجاهدين في سبيل اعلاء كلمته، الانصار وزراء الرسول واحباؤه لطالما تسابقوا من اجل التضحية بأرواحهم فداء لروحه هنيئا لهم حبه.
بعد انتهاء المعركة وبينما عبدالله بن عمر يمشي في الميدان وجد ابا عقيل على الارض مثقلا بالجراح القاتلة، جروحه تقطر قطرات الشرف والعزة، وضع عبدالله بن عمر رأس ابي عقيل على يديه وبالرغم مما فيه ابا عقيل كان اول شيء سأل عنه نتيجة المعركة واي الفريقين كان النصر حليفه، فأجابه: النصر للاسلام والمسلمين وقتل الكلب مسيلمة الكذاب، انظروا الى هذا العبيد الذي صدق ربه في طلب الشهادة فصدقه مولاه ومنّ عليه بها، سبحان الله رجل يحتضر ولا يهمه الا الاطمئنان على الاسلام والمسلمين!
لم يسأل عن ذويه او مال، شيء آخر من عرض الدنيا الفاني الزائل لم يطغ اهتمامه بالدنيا وما له فيها على عاطفته نحو ربه ودينه، يقول عبدالله بن عمر ان ابا عقيل كان يتكلم بصعوبة فلقد كان يودع الدنيا يتحدث بلسان اعوج لأنه يحتضر وعندما اطمأن على ما اراد اشار ابو عقيل باصبعه وقال الحمد لله ثم اسلم الروح.
الفرق شاسع والبون واسع بيننا وبينهم اصبحنا بلا هوية بالرغم من اننا خير امة اخرجت للناس، هؤلاء قمم منسية، ورموز ساطعة، جلية، استشهد ابو عقيل ورحل عن الدنيا لكن روحه وسيرته العطرة ستظل في الكون تفوح بكل ما هو زكي، نقي، تقي بالرغم من ان كتاب التاريخ الاسلامي والقائمين عليه نسوه! لماذا؟ الله وحده يعلم لا بد من الاقتراب من هؤلاء الابطال والتعرف اكثر واكثر عليهم، والتعلم من مواقفهم التي جعلها الله من اسباب وصول الرسالة الطاهرة اليـــنا، فالرجـــال مواقف، حتى نوفي هؤلاء الابطال حقوقهم ونقتدي بهم ونحذو حذوهم، يجب ان نسأل انفسنا ماذا سنفعل عندما نوضع على المحك؟ هل سنكون مثـــلهم أم سنـــنحى منحى آخر؟!
اخيرا لا املك الا ان اهدي لروح هذا البطل المجاهد تلك الآية الكريمة «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا بل احياء عند ربهم يرزقون».