ان التوحيد هو اساس الاسلام وروحه، ودعوة الانبياء وغايتهم، ونور الوجود الذي اذا انطفأ خرب الله تعالى العالم واقام القيامة.
ولكن هذا الاعتقاد الرفيع يتعرض دائما للتغيير والتشويه، وتلك سنة الله تعالى في تدافع الحق والباطل، ومن واجب اهل العلم تجديد هذا المعتقد وتصفيته مما علق به من شوائب وأوضار، مصداقاً لقول النبي الكريم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين» (رواه البيهقى).
النبي والغيب:
وان مما وقع لبعض المسلمين في القرون الاخيرة الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب، لا بعضه او مما تعلقت به الرسالة، بل كله، وقالوا ان النبي الكريم لم يمت حتى اطلعه الله تعالى على جميع الغيب. وتلقوا في ذلك ببعض العمومات والاطلاقات. قال الشيخ شمس الحق العظيم آبادى- في حديث حذيفة بن اليمان: قام فينا رسول الله فما ترك شيئا يكون في مقامه ذلك الى قيام الساعة الا حدثه، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه (متفق عليه)...: «استدل بهذا الحديث بعض اهل البدع والهوى على اثبات الغيب لرسول الله. وهذا جهل من هؤلاء، لان علم الغيب مختص بالله تعالى...» (عون المعبود).
ولا يزال هذا الرأى حيا في عصرنا هذا، وقد سئل الشيخ عبد العزيز ابن باز -رحمه الله تعالى- هل يعلم النبي الكريم الغيب؟ فأجاب: «اما الغيب فلا يعلمه الا الله وحده، وانما يعلم الرسول صلى الله عليه وسلم وغيره من الخلف من الغيب ما اطلعهم الله عليه، مما ورد -في القرآن الكريم والسنة المطهرة. بيانه من امور الجنة والنار واحوال القيامة وغير ذلك...» (مجموع المقالات والفتاوى).
اطلع النبي الكريم على غيب كثير:
فهذا لاشك فيه، اذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يوحى اليه بأخبار من الغيبيات لا تحصى، ويكفي ما رآه ليلة عرج الى السماوات ومن عجائب الملكوت واسرار الوجود، سوى ما اخبره الله تعالى به من مستقبلات كثيرة.
وقد خصص القاضي عياض لهذا الامر فصلا، ثم قال: «والاحاديث في هذا الباب بحر لا يدرك قعره ولا ينزف غمره، وهذه المعجزة من جملة معجزاته المعلومة على القطع الواصل الينا خبرها على التواتر...» (الشفا،1/335)
والجمهور على ان هذا الاخبار بالمغيبات يعد من جملة معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، ووجها من وجوه اعجاز الكتاب الذي جاء به.
قال تعالى: (قل ان ادري أقريب ما توعدون ام يجعل له ربي امدا، عالم الغيب فلا يظهر على غيبه احد، الا من ارتضى من رسول، فانه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا، ليعلم ان قد ابلغوا رسالات ربهم) (الجن،25-28). وهذا الغيب المستثنى هو بعض لا كله، قال ابو السعود: «... اي فلا يطلع على غيبه اطلاعا كاملا ينكشف به جلية الحال انكشافا تاما موجبا لعين اليقين احدا من خلقه «الا من ارتضى من رسول»، اي الا رسولا ارتضاه لاظهاره على بعض غيوبه المتعلقة برسالته» (ارشاد العقل السليم، 5/202). وكذلك قال القاضي ابن عطية (في المحرر الوجيز): «الا من ارتضى من رسول» معناه فانه بظهره على من شاء مما هو قليل من كثير». وهو هذا الغيب الذي اطلع عليه الرسول الكريم هو الذي له تعلق بالرسالة ليبين للناس دينهم، وليكون له ذلك ايضا معجزة.
النبي الكريم ينفي عن نفسه علم جميع الغيب
وكذلك علّمه الله ان يقول: (قل لا املك لنفسي نفعا ولا ضرا الا ما شآء الله، ولو كنت اعلم الغيب لاستكثرت من الخير، وما مسني السوء، ان انا الا نذير وبشير لقوم يؤمنون)
(الاعراف،188)
قال ابن كثير في تفسيره: «امره الله تعالى ان يفوض الامور اليه، وان يخبر عن نفسه انه لا يعلم الغيب المستقبل، ولا اطلاع له على شيء من ذلك الا بما اطلعه الله عليه».
وقد اخذ النبي بهذا الادب، فقال حين اختصم اليه رجلان: «انما انا بشر وانكم تختصمون اليّ ولعل بعضكم ان يكون ألحن بحجته من بعض، فاقتضي له على نحو ما اسمع، فمن قضيت له من حق اخيه شيئا فلا يأخذ، فانما اقطع له قطعة من النار» (صحيح البخاري). وعلق الحافظ ابن عبد البر على هذا قائلا: «في هذا الحديث من الفقه ان البشر لا يعلمون ما غيب عنهم وستر من الضمائر وغيرها لانه قال صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: «انما انا بشر» اي اني من البشر ولا ادري باطن ما تتحاكمون فيه عندي وتختصمون اليّ وانما اقضي بينكم على ظاهر ما تقولون وتدلون به من الحجاج وانما يعلم الانبياء من الغيب ما اعلموا به بوجه من وجوه الوحي» (التمهيد،22/216).
ولذلك حين سمع النبي صلى الله عليه وسلم جواري يضربن بالدف، في يوم عرس، وقالت احداهن فينا نبي يعلم ما في غد. قال لها: دعي هذه، وقولي بالذي كنت تقولين (البخاري). قال ابن حجر: «انما انكر عليها ما ذكر من الاطراء حين اطلق علم الغيب له، وهو صفة تختص بالله تعالى «قل لا يعلم من في السماوات والارض الغيب الا الله» (النمل:65).
ولعلك الآن- ايها القارئ الكريم تتساءل عن اصل هذا الرأي الفاسد الذي قال به بعض المسلمين قديما وحديثا. والجواب عن عاطفة حب النبي الكريم وتعظيمه جعلت بعض الناس يفهم من ظواهر بعض الاحاديث ان الرسول احاط بعلم المغيبات جميعا قبيل موته.
اصل القول بعلم النبي الغيب:
فمن ذلك ما في الصحاح -البخاري وغيره من ان النبي صلى الله عليه وسلم قام فحمد الله واثنى عليه، ثم قال: «ما من شيء لم اكن اريته الا رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار- الحديث».
قال الشيخ ابن ابي حمزة- على الحديث-: «يرد على هذا سؤال، وهو ان يقال ما المراد بقوله عليه السلام: ما من شيء لم اكن اريته الا رأيته». هل المراد به جميع الغيوب، أو المراد به ما يحتاج به الاخبار الى امته، وما يخصه عليه السلام في ذاته المكرمة. والجواب ان لفظ الحديث يتحمل الوجهين معا، والظاهر منهما الوجه الاخير... والاول ممنوع، يدل على ذلك الكتاب والسنة...، (بهجة النفوس،1/120).
وايضا فمما اوقع الشبهة لهؤلاء ما رواه الطبراني ان النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اوتيت مفاتيح كل شيء الا الخمسة: «ان الله عنده علم الساعة، و ينزل الغيث، ويعلم ما في الأرحام، وما تدري نفس ماذا تكسب غدا، وما تدري نفس بأي ارض تموت ان الله عليم خبير» (لقمان 34) والجواب على هذا من وجوه:
1ـ ان لفظة (اوتيت مفاتيح كل شيء) لا تفيد للعموم القطعي، لأن الاصل في ألفاظ العموم هو ظنية دلالتها، حيث يدخلها التخصيص كثيرا ولهذا قال بعض العلماء «ان النص الوحيد الباقي على عمومه هو قوله تعالى: (وهو بكل شيء عليم).
ومقصود الحديث هو اخبار النبي صلى الله عليه وسلم عن سعة ما اطلعه الله تعالى عليه من العلم وانما ذكر مفاتيح الخمسة للتمثيل بما يعلمه، لا ان ما لا يعرفه محصور في الخمسة فقط، ويعضد هذا الفهم رواية الامام احمد وفيها ان رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم هل بقي من علم شيء لا تعلمه؟ فأجابه «قد علم الله عز وجل خيرا، وان من العلم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل: الخمس (ان الله عنده علم الساعة ... الآية).
2ـ اذا اعتبرنا ان لفظة «الكل» في الحديث تفيد العموم القطعي كان الحديث نفسه نصا صريحا في ان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم جميع الغيب لأنه استثنى المفاتيح الخمسة وهي اصول الغيبيات وانما عبر القرآن عنها بالمفاتيح تنبيها على ان الغيوب التي اختص الله تعالى بعلمها كثيرة جدا، فما ذكر في الآية هو مجرد المفاتيح عما ما وراءها من المخازن العظيمة الهائلة فالله تعالى أعلم به (بهجة النفوس، فتح الباري).
3ـ ثم على فرض تحقق التعارض بين الحديث وما سبق من الآيات والاخبار، فلا شك ان الاخذ بالنصوص القطعية التي تنفي علم الغيب عن الرسول صلى الله عليه وسلم اصح واولى ويكفيك ما قالت ام المؤمنين عائشة وهي اقرب الناس الى النبي وآخرهم عهدا به: من حدثك ان محمدا يعلم الغيب فقد كذب، وهو يقول: لا يعلم الغيب إلا الله (رواه الطبراني في الكبير وضعفه السيوطي).
خاتمة في الوصية النبوية:
لا وجه للمقارنة بين العلم النبوي والعلم الإلهي، فبينهما ما بين البشرية والالهية من الفروق العظيمة، وقد اوصانا نبينا بألا نبالغ في تعظيمه فقال «لا تطروني كما اطرت النصارى عيسى بن مريم» فنحن نأخذ بوصيته فلا نثبت له شيئا هو أخص بمقام الالوهبية وأليق به فلا احد يعلم الغيب - على وجه الاحاطة والكمال، إلا الخالق العظيم سبحانه.
هذا ما يجب اعتقاده، وما سواه زلة عالم لا يتابع عليها. وفي الحديث «اخاف على امتي ثلاثا: زلة العالم وجدال منافق بالقرآن والتكذيب بالقدر» ومن احكام هذه الزلة: حفظ الادب مع العالم اذا اخطأ مع عدم تقليده في هذا الخطأ وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
العالمية والعولمة
يجب الفصل بين «العالمية» التي جاءت بها شريعة الاسلام وما تحمله من رسالة حب ورحمة وتسامح واخاء الى العالم اجمع، وبين «العولمة» وما تعنيه من الهيمنة واستلاب الآخرين.
ان عالمية الاسلام تحيل العالم الى قرية كونية يتمتع فيها الانسان بحق الاختيار، ويسود فيها البرو القسط، ويتفيأ الانسان فيها ظلال العدل والرحمة، وتصان فيها حرمات المخالفين وحقوقهم، هذه العالمية الاسلامية يجب ألا تلتبس في الاذهان بالعولمة التي يدعو اليها حملة المشروع الغربي، والتي تحيل العالم الى غابة عالمية يأكل القوي فيها الضعيف.