... هي اسمى العلاقات واعظمها قدرا واقواها رابطة... لذلك أحاطها الإسلام بسياج تشريعي ملزم يضمن لها سلامتها وتواصلها وقوتها... فقال تعالى في محكم التنزيل «ووصينا الإنسان بوالديه حملته امه وهنا على وهن وفصاله في عامين ان اشكر لي ولوالديك الي المصير...» ويقول جل من قائل «ولا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» وهذه وصايا واجبة التنفيذ اذ لا يصح او يعقل ان تكون العلاقة بين الولد وابيه في غير هذا المسار الذي رسمه الإسلام. ومن خرج عنه خاب وخسر دنياه وآخرته، وعلى المسار نفسه فقد اوصى الاسلام الآباء بأن يتقوا الله في اولادهم، فيحسنوا تربيتهم ورعايتهم والاحسان اليهم في الصغر فتنعكس نتيجة هذا عليهم في الكبر.
وباستقراء واقع المسلمين نجد ان هذه العلاقة لا تسير في مسارها الصحيح حسبما قرره الإسلام، وقد فقدت ضوابطها وإطارها الصحيح، الاسلام ينشد بها غاية مثلى فما الذي وصل بها إلى هذا المنحدر؟ اسئلة كثيرة تدور حول هذا الموضوع بكل جوانبه سنحاول الإجابة عنها من خلال هذا الطرح.
قال تعالى: «المال والبنون زينة الحياة الدنيا...» فمتى يكون الولد زينة حسب مفهوم الآية؟
يجيب علماء التفسير بأن الآية تدل دلالة واضحة على ان الاصل في المال والبنين انهما زينة فيتعلق القلب ويفتن بهما كما قال تعالى «واعلموا انما اموالكم واولادكم فتنة وان الله عنده اجر عظيم» وختام هذه الآية والآية السابقة - وهو قوله تعالى «والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير املا» يدل على ان العبد يجب ألا يفتن بالأموال والأولاد عن طاعة الله تعالى ومثل ذلك قوله تعالى «زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب».
والحاصل ان الاولاد لأنهم مصدر سرور، ومنبع حبور للآباء، ولكن الزينة قد تنقلب إلى نكد وكدر وعذاب، لأن الزينة في الحقيقة: ما لا يشين الانسان في شيء من احواله، لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقد يكون الاولاد سببا في سوء حالة الآباء، وذلك اذا ما كفروا او فجروا فيصبحون مصدر سب لآبائهم، ومحط تنقيص لهم بسبب سوء اقوالهم وافعالهم ومعاملتهم للآخرين، حتى ان الأب ليصل إلى درجة يتمنى فيها موت ابنه او ابنته لما يلاقي بسببه من الخزي والعار والفضيحة والشنار وسواد الوجه وضيق الصدر، فأين تلك الزينة؟ واين ذلك الجمال؟ اين ذلك الأصل الاصيل الذي اشار اليه القرآن الكريم؟ لقد ذهب ادراج الرياح لما جنته ايدي الاولاد.
علاقة سامية
يهدف الإسلام إلى إقامة مجتمع مسلم متماسك، يحافظ على القيم والمبادئ حتى تتحقق له السعادة والراحة، والعزة والنصرة في دنياه وآخراه، من اجل ذلك فرض اصولا من الاخلاق والمثل تربط الولد بوالديه، حتى جعل منهما علاقة جزئية بعضية، فالولد بعض من أبيه وأمه، واهم هذه الاخلاق: توفير الابناء لآبائهم إلى درجة انه نهاهم عن مجرد التأفف لهم «فلا تقل لهما اف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا» وفي المقابل امر الآباء برحمة الابناء والعطف عليهم، وامر الأب - خصوصا - بالنفقة على ولده الذي ليس له كسب يغنيه عن الحاجة فتقوي الصلة جدا بتحقيق هذين الامرين: توقير من الأبناء ورحمة من الآباء فتمتلئ الحياة بالمحبة والوئام، وينشأ الأبناء اسوياء اتقياء ويقوم المجتمع النظيف العفيف.
المجتمع الغربي
باستقراء حال المسلمين نجد ان العلاقة بين الولد وابيه فقدت ضوابطها إلا من النزر اليسير والحقيقة التي لا ميرية فيها ولا شك انه كلما ابتعد الانسان عن الدين والإيمان، نجد انه تضعف عنده الاخلاق والقيم وتأمل حال المجتمع الغربي، نجد عنده الضعف الشديد في بر الوالدين يفعل الاولاد ما يشاؤون اذا ما وصلوا إلى سن الخامسة عشرة او نحو ذلك فتدخل البنت عشيقها إلى بيت ابيها وامها، وهما قد يكونان رافضين ولكن لا يستطيعان ان يتفوها بكلمة لأنهما رضيا لأنفسهما ذلك بابتعادهما عن الدين وسطرت قوانينهما على هذا الاساس! وما اسهل ان يرمي الولد اباه في الشارع اذا كبر ولم يعد يستطيع القيام بشؤون حياته لوحده! وكم نسمع عنهم ان آباء لم يلتقوا ابناءهم من سنين طويلة، هكذا مع تيسر سبل المواصلات اليوم والقصد ان ضعف رابطة الابوة والبنوة ولا سيما مع الطعن في السن، قد اضحى عندهم ظاهر وان كان لا يعني انهم كلهم على هذا المنوال، ولكن الامر عندهم متفش ومنتشر بل يكاد يكون هو الاصل والمألوف!
اذا فالسبب الاول في ضعف الرابطة هو ضعف الدين وهذا السبب نتج عنه اسباب اخرى اهمها: تفكير المرء منا اليوم بديناره ودرهمه وبيته وسيارته وعمله، اكثر بعشرات المرات من اولاده، فيتركهم اياما من اجل تجارته لكن لا يترك تجارته من اجل ابنائه والسبب واضح فالتجارة اخذت قسطا كبيرا من قلبه وباله، والنتيجة الطبيعية لذلك ألا يشعر الولد بحنان ابيه، ولا برعايته ومتابعته، ويهمل من الصغر، فلا هو يتعلم الاخلاق والدين حق التعليم، ولا هو يرى بعينيه قدوة في ذلك، فيخرج الاولاد إلى الشوارع اللهم إلا في اوقات المدارس، وماذا عسى ان تصنع المدارس لهم والحالة هذه؟
فتخرج هذه الثلة تربية شوارع، وما ادراك ما تربية الشوارع؟ ان الاهتمام بالمادة على حساب القيم هو سبب عظيم من اسباب فقدان الضوابط الشرعية التي تحكم العلاقة بين الآباء والابناء.
وما احسن ما قاله شوقي رحمه الله:
ليس اليتيم من انتهى ابواه من
هم الحياة وخلفاه ذليلا
ان اليتيم هو الذي تلقى له
اما تخلت او ابا مشغولا
إهمال الأولاد
ولإصلاح هذه العلاقة يجب اصلاح الآباء اولا، واحساسهم بخطورة اهمال الاولاد، خطورته على دنياهم حيث يفسد الولد ويضيع سمعة والديه، ويكون مصدرا لهمومهما، وخطورته على آخرتهما، حيث الحساب عند الله تعالى قال صلى الله عليه وسلم «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته».
والواجب على الآباء ان يغرسوا الأخلاق والدين في نفوس الابناء منذ الصغر، فالطفل في صغره هو كشريط المسجل يسجل كل شيء، وما سجلته سنسمعه، ان خيرا فخير وان شرا فشر، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يربي الصغار كما يربي الكبار، فهذا اخذ تمرة من تمر الصدقة وهو طفل صغير قال له النبي - صلى الله عليه وسلم «كخ كخ اما علمت انا لا نأكل الصدقة؟» ولما كان عمرو بن ابي سلم - ربيب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل معه طاشت يده في الإناء فقال له مؤدبا ومربيا «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك».
ولله در الشاعر حين قال:
حرض بنيك على الآداب في الصغر
كيما تقر بهم عيناك في الكبر
وانما مثل الآداب تجمعها
في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر
فساد او تقصير
ليس اكيدا ان فساد الابناء دليل على فساد الآباء دائما، فهذا نوح عليه السلام لم يسلم ابنه مع كثرة دعوة ابيه له وترجيه، ولكن في الغالب ان يكون هناك اما فساد من الأب او تقصير منه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا
على ما كان عوده ابوه
فكل ثمر يخرج انما هو على حسب بذره وغرسه، والطفل في صباح يتمنى ان يخرجه ابوه إلى اي مكان، لا اعتراض من الولد ولا كسل فإن اغتنم الاب هذه الفرصة لغرس القيم النبيلة والاخلاق الفاضلة فيه اثمر له ذلك باذن الله، اذا احسن الطريقة والوسيلة والاسلوب، ولكن في بعض الاحيان قد يكون السبب خارجا عن ارادة الأب كأن يكون الولد فيه بذرة سوء وشر وفيه خبث نفس وسوء طوية فلا يصدق ان يدعوه داعي الضلالة من رفاق السوء وطلاب الشهوة، حتى يكون سائرا في طريقهم فالدنيا دار فتنة وابتلاء «ليميز الله الخبيث من الطيب» وقال صلى الله عليه وسلم «حفت النار بالشهوات وحفت الجنة بالمكاره».
لكن اذا كان الأب سببا في فساد الابن فبمن نبدأ بالاصلاح؟ من المؤكد انه علينا ان نبدأ بعلاج المريضين معا، لكن يكون الجهد الاكبر على السبب الاكبر في المرض - ان كان هناك امل في العلاج والمصلحة، وهو المريض صاحب العدوى الذي هو الأب لأن علاج الفرع مع بقاء الاصل المتسبب في المرض وعدم انقطاعه، معناه رجوع المرض ورجوع البلاء.
العودة إلى الدين
واذا اردنا ان نعيد الشباب المسلم إلى نقائه حتى يعود المجتمع إلى صفائه فعلينا ان نرجعه إلى دينه مصدر عزته ورفعته وكرامته فلا يؤثر في الانسان شيء مثل دينه حيث يوقن المرء ان الله تعالى مطلع عليه في كل مكان وزمان فيخشاه وينتهي عن معصيته ثم نوصيهم بمصاحبة الصالحين وترك الاخلاء الفاسدين وحضور حقات العلم ومجالس الذكر وربطهم بذلك دائما حيث التواصي بالحق والتواصي بالصبر ثم متابعتهم في البيت والعناية بتربيتهم تربية حسنة قبل العناية بأمور الدنيا من مأكل وملبس ومسكن «والذين يقولون ربنا هب لنا من ازواجنا وذرياتنا قرة اعين واجعلنا للمتقين إماما».
واجبات وحقوق
ونختم حديثنا بتوضيح واجبات الآباء والابناء كل منهما تجاه الآخر فاما واجبات الآباء فهي:
اولا: واجب قبل حضور الابناء إلى الدنيا وذلك باختيار الزوجة الصالحة التي ستكون اما للاولاد ومعينا في التربية «فاظفر بذات الدين تربت يداك».
ثانيا: واجبات تتحقق بولادة المولود وهي «تحنيكه اي يمضع تمرا ويدلك به حنك المولود حتى ينزل إلى جوفه شيء من حلاوة التمر وريقه. -2 ختانه: فهو من سنن الفطرة وهو على الراجح واجب في حق الذكور مستحب وسنة في حق الاناث. -3 العقيقة: وهو ان يذبح للمولود ذبيحة ويستحب ان تكون في اليوم السابع او الرابع عشر او الحادي والعشرين من ولادته -4 تسمية المولود بالاسم الحسن. -5 حلق شعر المولود ذكرا كان او انثى في اليوم السابع والتصدق بوزن سعره ذهبا او فضة.
ثالثا: النفقة على الأولاد الذين ليس لهم كسب حتى يغنيهم عنه الحاجة.
رابعا: تربيتهم وتنشئتهم النشأة الصحيحة التي يرضاها الله ورسوله.
اما واجبات الابناء تجاه الآباء فهي: احترام آبائهم وتقديرهم، وطاعتهم في كل ما يأمرون به، ما لم يكن في معصيته الله تعالى، اعانتهم على الاحسان اليهم والنفقة عليهم عند الحاجة.
هذا جد يغرس في حفيده توفير الكبير وتعظيم شأنه