التحضر الإسلامي ميدان متسع شمل كل أرجاء الحياة، «العمارة، الفنون، العلوم، الاقتصاد، الكتابة... وإلخ» لم يتوقف المسلمون عن البحث والابتكار، أبدعوا في الكيمياء والفيزياء والفلك والرياضيات، واللغويات، كتبوا في التاريخ والجغرافيا، وامتدت جهودهم إلى آفاق بعيدة، وتعلم الجميع في دور علم راقية عرفت باسم المدارس، تعالوا بنا نلقي نظرة سريعة على المدارس في عالم الإسلام، اسمها، عملها، عمارتها، تطورها، والمهم أن نتابع.
القراءة والكتابة والعلم والتعلم، جانب مهم من جوانب الاهتمامات الإسلامية، فالدين يحث على العلم وطلبه، «اطلبوا العلم ولو في الصين ـ اطلبوا العلم من المهد إلى اللحد»، وأول سور القرآن الكريم التي نزلت على سيد الخلق هي سورة العلق «اقرأ باسم ربك الذي خلق»، ويستمر الإسلام في الدعوة إلى العلم والتعلم، «الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم»، حتى إن الرسول «صلى الله عليه وسلم» حرر الأسير الذي يعلِّم عددا من المسلمين القراءة والكتابة، وإن دل ذلك على شيء إنما يدل على اهتمام الإسلام بذلك الجانب المهم في حياة البشرية. من جهة أخرى، فإن الدولة الإسلامية في جميع أدوارها اهتمت بالعلم والتعليم، عقدت الدروس في المساجد قبل إنشاء المدارس، وما تعلم المسلمون الأوائل إلا تحت مظلات المساجد وفي أروقتها، وفي صحون هذه المساجد، حيث كانت تعقد حلقات التعلم، الطلاب يتحلقون حول معلمهم، وهو يتناول الموضوع تلو الموضوع والدرس بعد الآخر، يتعلمون ويبدعون، ولعلنا يجب أن نعرف أن مدرسة رسول الله قد قدمت لنا القادة العظام الذين تخرجوا في مدرسة النبوة، وهم الذين أدبوا الجبابرة وكسروا شوكتهم وأزاحوا جبروتهم وتركوا الشعوب تتعرف على طريقها وأسلوب حياتها والدين الصحيح الذي تنتهجه وتتدين به بعيدا عن ظلم جبار كان يحكم ويجبر الخلق على اتباع الدين المرغوب من هذا الطاغية أو ذاك.
استمرت المساجد تقدم ذلك النهج من التعليم والتدريس لفترة طويلة، استمرت حتى القرن الرابع الهجري، حيث بدأ ظهور نوع جديد من العمائر الدينية الإسلامية في شرق العالم الإسلامي، وظهرت أسماء جديدة لأماكن العبادة عرفت باسم المدارس، ثم مع الوقت انتشرت في غرب العالم الإسلامي خلال القرن الخامس الهجري، وكان تغيير الاسم إلى «مدرسة» يتبع حكمة اقتضتها الوظيفة الجديدة، الوظيفة التي كانت السبب والدافع المباشر لتشييدها.
صاحب تغيير الاسم والوظيفة تغير جوهري في التخطيط المعماري، ونتيجة لذلك فقد اختلف علماء الآثار ومؤرخو العمارة الإسلامية ونقاد الفنون - اختلفوا - في وظيفة هذه العمائر الجديدة والتي اتفق على تسميتها بالمدارس.
يذكر أنه جرت مناقشة حادة في إحدى الندوات العلمية التي صاحبت احتفالات مدينة القاهرة بألفيتها، وكان محور المناقشات كلها حول هذه التسمية، وكان المطلوب هو التعرف على تأدية وظيفة المدرسة بالفعل في هذه المباني من عدمه؟ أم أنه كان مجرد تشابه في اسم المبنى دون الوظيفة؟
فمثلا يقال جامع ومدرسة السلطان حسن، هل وظيفة المبنى كانت للصلاة فقط. أم أنه قد مورست فيه عملية التدريس؟
لابد لنا، والأمر كذلك، أن نقدم في سطور قليلة أنواع الثقافات التي اهتم بها الدين الإسلامي والمسلمون عموما في العصور الوسطى، ويجب علينا أن نضع هذه الثقافات مقسمة تحت عنوانين رئيسيين:
الأول: يشمل دراسة علوم القدماء، وقد أطلق عليها العرب والمسلمون اسم «علوم الأوائل»، وتحتوي على عدة مواد دراسية، منها «الرياضيات والطبيعة والفلك والفلسفة وعلم الديانات» وما إليها من تلك العلوم العقلية في أغلبها والنقلية في أقلها، وقد درست تلك العلوم في العمائر والبنايات نفسها التي عرفت باسم «دار العلم».
والثاني: يشمل العلوم الإسلامية التي تقوم أساسا على القرآن الكريم وعلومه، وما به من أحكام، والحديث النبوي الشريف، إضافة إلى ما تشعب من هذه العلوم سواء أكانت دينية أم اجتماعية أم قضائية، وهي كلها علوم نقلية عدا ما يتم الاجتهاد فيه ليدخل ضمن العلوم العقلية وما أضيف إليه من قياس وأحكام.
المدارس
نشأت المدارس الإسلامية أول الأمر في مدينة نيسابور، حيث تم إطلاق اسم المدرسة على «دار العلم» في عهد السلطان «محمود الغزنوي»، خلال القرن الرابع الهجري، وقد أنشئت المدرسة «البيهقية والسعيدية» ومدرسة «أبوسعيد الإسطرلابي» ومدرسة «أبوإسحق الأصفراني» المتوفى العام 418 هـ، واستمرت هذه العمائر كمنشآت محلية في مزاولة عملها لمدة طالت إلى حوالي 50 سنة تقريبا، إلا أنه مع مرور الوقت انتهت كظاهرة معمارية وثقافية بعد مصرع وزيره «طغرل بك».
اشتد عود هذه العمائر مرة أخرى وعادت بقوة على يد أعظم الوزراء في العصر السلجوقي، الوزير «نظام الملك»، الذي نعتبره أعظم الرجال الذين تولوا الوزارة في العصر السلجوقي. بل أعظم الوزراء في شرق العالم الإسلامي، إن لم يكن في جميع دول الإسلام قاطبة، والذي استمر يعمل وزيرا مع ثلاثة سلاطين، هم «طغرل بك، ألب أرسلان، وملك شاه»، وهم السلاطين العظام الذين على أيديهم نشأت القوة الإسلامية والتطور الإسلامي العظيم وإعادة إحياء مجد الإسلام وبعث دولته من جديد خلال العصر السلجوقي.
استطاع ثاقب الفكر، بعيد النظر. عظيم الإدراك، حسن الإدارة الوزير «نظام الملك» أن يستفيد من هذه المنشآت الثقافية والدينية في نشر الإسلام وتطوير الدعوة إليه، ونشر العلم والتوسع في التعليم، وأصبحت هذه المنشآت التي عرفت باسم المدارس -منشآت عامة - بعد أن كانت منشآت خاصة، وأصبحت معاهد يتخرج فيها الموظفون الذين يديرون الشؤون الإدارية والفنية خلال العصر السلجوقي.
أنشأ «نظام الملك» الكثير من المدارس في بغداد وطوس والبصرة وأصفهان وبلخ، واستمر إنشاؤها حتى بعد نظام الملك، وبلغت أعدادا لا بأس بها في الدولة السلجوقية وانتشرت في جميع ولاياتها.
ولما جاء الأتابكة اتبعوا أسلوب نظام الملك في بناء المدارس في مدن الموصل ودمشق، واشتد عمل كل من نور الدين وصلاح الدين الأيوبي في شمال العراق وسورية ومصر في إنشاء المدارس، ولذا نجد أن هؤلاء الوزراء ذوي الأصل الكردي أو المغولي كان لهم فضل كبير في إنشاء الكثير من هذه العمائر الثقافية والتي عرفت باسم «المدارس» في غرب العالم الإسلامي والتي استمر إنشاؤها متواترا بعد ذلك.
عمارة المدارس
نشأت المدارس أول الأمر كمدارس خاصة، حيث أنشأ الوزير «رضوان بن الولخشى» مدرسة في مدينة الإسكندرية العام 532 هـ لنشر المذهب الشافعي، ومن بعده جاء «ابن سلار» وزير الخليفة «الظافر» الفاطمي، وأنشأ مدرسة أخرى في الإسكندرية العام 546هـ، ثم تلى ذلك مدارس أخرى خلال العصر الفاطمي، وامتد إنشاء المدارس عندما وصل صلاح الدين الأيوبي إلى حكم مصر، حيث أنشأ العديد من المدارس وجعلها مدارس عامة وليست خاصة. هذه المدارس كانت تتكون أول الأمر معماريا من إيوان واحد في جهة القبلة، أما الأضلاع الثلاثة الباقية حول الصحن فكانت تحتوي على غرف للطلبة، أي أن المدرسة كانت في أول الأمر تدرس مذهبا واحدا بسبب وجود إيوان واحد.
القرن 15 الميلادي قدم لنا المقريزي تعدادا للمدارس في عهده، عدّدها بـ 72 مدرسة، رتبها لنا البروفيسور «كريزويل» ترتيبا زمنيا، وقام بعمل دراسة معمارية وفنية لتلك التي كانت لاتزال موجودة حتى زمنه «أي بعد منتصف القرن العشرين».
* المدارس الأولى كما سبق وبينا كانت تتكون من إيوان واحد في جهة القبلة وتدرس مذهبا واحدا، أما تلك التي خصصت لمذهبين فإننا نتعرف على المدرسة الفاضلية التي أنشأها صلاح الدين الأيوبي سنة 580 هـ.
* توالي إنشاء المدارس
بعد ذلك مثل:
أـ المدرسة الأسدية ـ مذهبين ـ سورية
ب ـ المدرسة الكاملية ـ 622 هـ.
والأخيرة لاتزال أطلالها باقية حتى الآن. وتتكون من إيوانين لتدريس مذهبين، وقد جاءت على خريطة الحملة الفرنسية على مصر باسم حمام «بيصارى» الذي يرجع تاريخ إنشائه إلى العام 659 هـ ويعرف الآن باسم حمام السلطان.
جـ ـ المدرسة الصالحية، وقد أنشأها السلطان الصالح نجم الدين أيوب العام 639هـ، وتضم أربعة إيوانات، إلا أن تخطيطها جاء مثل المدرسة ذات الإيوانين حيث تتكون عمارتها من مجموعتين تفصل بينهما حارة الصالحية الآن ويجمعهما مدخل المدرسة الرئيسي الذي تعلوه المئذنة، وأطلال هذه المدرسة تنبئنا بمجموعتين معماريتين الجنوبية تتكون من إيوانين «متهدمة» تماما ويستخدمهما أهالي المنطقة في شارع بين القصرين «المعز» ـ يستخدمونها ـ كمصلى حتى الآن، وهذه أول مدرسة في مصر ذات أربعة إيوانات ولكنها غير متعامدة.
يسبق هذه المدرسة ـ التي تدرس أربعة مذاهب ـ مدرسة أخرى في بغداد، هي المدرسة المستنصرية التي نشأت قبل المدرسة الصالحية بعشر سنوات تقريبا.
السلطان الظاهر بيبرس البندقداري، أنشأ أولى المدارس ذات الإيوانات الأربعة المتعامدة، وكان ذلك العام 661 هـ والتي لم يتبق منها إلا كتلة الواجهة ملاصقة لضريح السلطان الصالح نجم الدين أيوب بسوق النحاسين بالصاغة بشارع المعز، ولا تخطئها العين، حيث استخدم الإيوان القبلي فيها لتدريس المذهب الشافعي، والمذهب الحنفي بالإيوان البحري، وأهل الحديث بالإيوان الشرقي، والقراء بالقراءات السبع بالإيوان الغربي. أما المدرسة الناصرية فقد كانت أولى المدارس التي خصصت للمذاهب الأربعة وذات تخطيط متعامد. وتجيء مدرسة السلطان حسن بن قلاوون في مقدمة المدارس التي أنشئت بقصد الثقافة والعلم والدعوة إلى السلطان، وهي في ميدان القلعة بالقاهرة ولاتزال باقية حتى الآن. وتؤدي دورها كجامع للصلاة، وتتكون من أربعة إيوانات، وبجانب كل إيوان مدرسة، ويتكون تخطيط المدارس الأربع جميعا من صحن تتوسطه فسقية ثم طبقات «أدوار» بعضها فوق بعض تشرف على صحن المدرسة، ومبنى هذه المدرسة ضخم ومرتفع يشبه الحصن ونذكر أن أحد العلماء قد وصفها لنا ونحن وقوفا أمامها بأنها شيء «جليل»، وقال هذا يكفي.
وللعلم فقد استنفد القالب الذي بني عليه إيوان الصلاة في هذه المدرسة خراج مصر كاملا لمدة سبع سنوات، وسبق أن قدمتها للقراء منذ أكثر من عشرين سنة «حصن ومسجد ومدرسة» في مجلة العربي الكويتية.