على الرغم مما نحن فيه من النعم وما نرفل فيه من أنواع الرفاهية التي لم يكن يحلم بها او يتصورها الاقدمون إلا ان هناك البعض ممن لم يرزقه الله تعالى فضيلة الرضا تراه دائما متسخطا كثير الشكوى من كل شيء ومن اي شيء! لا يشعر بنعم الله التي لا تحصى وتحيط به حوله الا انه لا يعرف الشكر ولا يعرف كيف يشكر الله على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة.
والشكر هو الثناء على المنعم بما اولاكه من معروف.
وشكر العبد يدور على ثلاثة اركان لا يكون شكرا إلا بمجموعها وهي الاعتراف بالنعمة باطنا، والتحدث بها ظاهرا، والاستعانة بها على طاعة الله، فالشكر يتعلق بالقلب واللسان والجوارح، فالقلب للمعرفة والمحبة، واللسان للثناء والحمد، والجوارح لاستعمالها في طاعة المشكور وكفها عن معاصيه.
وقد قرن الله عز وجل الشكر بالإيمان، واخبر انه لا غرض له في عذاب خلقه ان شكروا وآمنوا فقال: (ما يفعل الله بعذابكم ان شكرتم وآمنتم) «النساء: 147» اي ان وفيتم ما خلقتم له وهو الشكر والإيمان فما اصنع بعذابكم.
واخبر سبحانه ان اهل الشكر هم المخصصون بمنته عليه من بين عباده فقال تعالى: (وكذلك فتنا بعضهم ببعض ليقولوا أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أليس الله بأعلم بالشاكرين) الأنعام 53 وقسم الناس إلى شكور وكفور فأبغض الاشياء اليه الكفر واهله واحب الاشياء اليه الشكر وأهله فقال تعالى: (انا هديناه السبيل اما شاكرا وإما كفورا) الانسان: 3، وقال تعالى على لسان نبيه سليمان عليه السلام: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غني كريم) النمل: 40.
وقال تعالى: (واذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم ان عذابي لشديد) ابراهيم: 7
فعلق سبحانه المزيد بالشكر والمزيد منه لا نهاية له كما لا نهاية لشكره.
قال الحسن: أكثروا من ذكر هذه النعم فإن ذكرها شكر، وقد امر الله نبيه ان يحدث بنعمة ربه فقال: (واما بنعمة ربك فحدث) الضحى: 11 والله تعالى يحب ان يرى اثر نعمته على عبده فإن ذلك شكرها بلسان الحال.
وكان ابو المغيرة اذا قيل له كيف اصبحت يا ابا محمد؟ قال: اصبحنا مغرقين في النعم عاجزين عن الشكر، يتحبب الينا ربنا وهو غني عنا، ونتمقت اليه ونحن اليه محتاجون.
وعن سفيان في قوله: (سنستدرجهم من حيث لا يعلمون) القلم: 44 قال: يسبغ عليهم النعم ويمنعهم الشكر، وقال غيره: كلما احدثوا ذنبا احدث لهم نعمة.
قال رجل لأبي حازم: ما شكر العينين يا ابا حازم؟ فقال: ان رأيت بهما خيرا أعلنته وان رأيت بهما شرا سترته، قال فما شكر الاذنين؟ قال: ان سمعت بهما خيرا وعيته، وان سمعت بهما شرا دفعته، قال: فما شكر اليدين؟ قال لا تأخذ بهما ما ليس لهما، ولا تمنع حقا لله هو فيهما، قال ما شكر البطن؟ قال: ان يكون اسفله طعاما واعلاه علما، قال فما شكر الفرج؟ قال: (والذين هم لفروجهم حافظون الا على ازواجهم او ما ملكت ايمانهم فإنهم غير ملومين فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون) المعارج: 29.
وكتب بعض العلماء إلى أخ له: اما بعد فقد اصبح بنا من نعم الله ما لا نحصيه من كثرة ما نعصيه، فما ندري ايهما نشكر جميل ما يسر ام قبيح ما ستر.
فإن قلت: فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر؟ فأقول: اما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل في اصناف نعم الله تعالى العامة، واما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا اذا خصتها او شعرت بالبلاء معها فسبيله ان ينظر ابدا إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض السلف، اذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود، فكان يحضر دار المرضى ليشاهد انواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الامراض ويشكر الله تعالى، ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع اطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن، ويحضر المقابر فيعلم ان احب الاشياء إلى الموتى ان يردوا إلى الدنيا ولو يوما واحدا، اما من عصى الله تعالى فليتدارك، واما من اطاع فليزد، فإن يوم القيامة يوم التغابن، فالمطيع مغبون اذ يرى جزاء طاعته فيقول: كنت اقدر على اكثر من هذه الطاعات فما اعظم غبني اذ ضيعت بعض الاوقات في المباحات، واما العاصي فغبنه طاهر، فإذا شاهد المقابر وعلم ان احب الاشياء اليهم ان يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له، فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي اهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر، بل في الامهال في كل نفس من الانفاس، واذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله وهو التزود من الدنيا للآخرة، فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر، وقد كان الربيع بن خيثم مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيدا للمعرفة فكان قد حفر في داره قبرا فكان يضع غلا في عنقه وينام في لحده ثم يقول: (رب ارجعون لعلي اعمل صالحا) ثم يقوم ويقول: «يا ربيع قد اعطيت ما سألت» فاعمل قبل ان تسأل الرجوع فلا ترد.
ومما ينبغي ان تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر: ان تعرف ان النعمة اذا لم تشكر زالت ولم تعد ولذلك ان الفضيل بن عياض رحمه الله يقول: عليكم بملازمة الشكر على النعم فقل نعمة زالت عن قوم فعادت اليهم، وقال بعض السلف: النعم وحشية فقيدوها بالشكر، ما عظمت نعمة الله تعالي على عبد الا كثرت حوائج الناس اليه فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال، وقال الله سبحانه وتعالى: (ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) فهذا تمام هذا الركن.
? إمام وخطيب