نساء في التاريخ / أم إبراهيم... مارية القبطية رضي الله عنها

1 يناير 1970 11:32 ص
يعقوب العوضي

سافر حاطب بن بلتعة إلى مصر حاملا رسالة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى المقوقس عظيم مصر (او قيروس الروماني) وكان حاطب بن بلتعة تاجر طعام من قبيلة اسد ويملك عددا من العبيد وهو من الرماة الموصوفين وقد سلك حاطب طريق التجارة المعروف من المدينة حتى دخل مصر ثم وصل إلى الاسكندرية قاصدا بلاط المقوقس حاكم مصر وسلم الرسالة اليه والتي جاء فيها (من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط... سلام الله على من اتبع الهدى... اما بعد

فإني ادعو بدعاية الإسلام فأسلم تسلم، واسلم يؤتيك الله اجرك مرتين فإن توليت فعليك اثم القبط (يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة بيننا وبينكم لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا اربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون) وقد دار حوار بين بن بلتعة والمقوقس وبمجرد سماع المقوقس لصفات النبي صلى الله عليه وسلم من بلتعه  حتى تحول موقفه من الشك إلى اليقين. واخذ يكمل ما نسيه بلتعة فقال له: (قد بقيت اشياء لم ارك ذكرتها في عينه حمرة قلّ ما تفارقه وبين كتفيه خاتم النبوة، يركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزئ بالتمرات والكسر) وبعد قراءته لكتاب الرسول الكريم كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم (قد علمت ان نبيا قد بقي وكنت اظن انه يخرج بالشام وقد اكرمت رسولك وبعثت اليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وقد اهديت لك كسوة وبغلة. وعاد بلتعة بعد قضائه خمسة ايام في ضيافة المقوقس إلى المدينة المنورة ومعه الهدايا التي ارسلها المقوقس للنبي صلى الله عليه وسلم، مارية القبطية أم ابراهيم وسيرين اختها وعندما رآهما الرسول الكريم قال لهما: (قولا نشهد ان لا إله إلا الله وان محمدا عبده ورسوله) فشهدت مارية واختها وآمنتا بالرسول الكريم. وقد اختار النبي مارية واهدى سيرين اختها إلى شاعره حسان بن ثابت وانزل مارية في بيت الحارثة بن النعمان عند أم سليم بنت ملحان أم انس بن مالك وهذا البيت كان قريبا من بيوت زوجات النبي المبنية بجوار المسجد ومارية القبطية (هي مارية بنت شمعون) دون اي زيادة في الاسم على اسم الاب وكانت ولادتها في قرية من قرى مصر تدعى (جفن) قريبة من بلدة تسمى (انصنا) الواقعة على الضفة الشرقية لنهر (النيل) وكان والدها قبطيا وأمها مسيحية رومية وقد غلب على بشرتها البياض الذي ورثته عن امها. وقد امضت حداثتها وسنوات طفولتها في قريتها وبين اهلها فلما كبرت وشبت انتقلت مع اختها سيرين إلى قصر المقوقس عظيم القبط. ثم انتقلت إلى مصر. وقد دخل بها النبي في العام السابع للهجرة. وتقول عائشة رضي الله عنها (ما غرت على امرأة إلا دون ما غرت على مارية وذلك انها كانت جميلة من النساء جعدة واعجب بها الرسول صلى الله عليه وسلم وكانت مجاورة لنا وكان الرسول الكريم يقضي عامة النهار والليل عندها. ثم حولت إلى العالية وكان يختلف اليها هناك وكان ذلك اشد علينا) والعالية تقع في جنوب شرقي المدينة وتشتهر بنخيلها وآبارها العذبة وهي كثيرة المياه.

وكانت نار الغيرة دائمة الاتقاد بين زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، حتى جاءت مارية فجذبت الانظار وغارت منها السيدة عائشة رضي الله عنها، خصوصا ان النبي كان يقضي معها الليل والنهار. وكان الرسول الكريم يصحب مارية معه في زياراته لزوجاته الاخريات، وقد خلا الرسول الكريم بمارية في بيت حفصة فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وحفصة قاعدة على الباب فقالت: يا رسول الله أفي بيتي وفي يومي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي عليَّ حرام فأمسكي عني فقالت: لا اقبل دون ان تحلف لي فقال: والله لا أمسها ابدا، فنزلت في تلك الحادثة (يأيها النبي لم تحرم ما احل الله لك) وبعد ان انتقلت مارية إلى العالية كان (مابور) الذي رافقها إلى المدينة يأتيها بالماء والحطب وببقية احتياجاتها، وبعد مضي عام كامل على دخول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم بـ (مارية) فقد كانت سعيدة في حياتها الا انها كانت تحس بالضيق وتتمنى ان تتحدد حياتها ويرتبط مصيرها (بمحمد بن عبدالله) النبي العظيم برابطة لا تنفصم عراها ابدا، بأبناء وذرية. وما ان دخل العام الثاني حتى احست ببوادر الحمل وتحقق املها في الانجاب فاسرت ذلك لأختها سيرين بعد ان تكور بطنها فأكدت لها اختها ان ليس في الامر وهم ولا شبهة وانما هو جنين حي وقد استجاب الله لدعاها واخبرت زوجها النبي الكريم بحملها وافضت بالسر فرفع عليه الصلاة والسلام يده الكريمة إلى السماء ووجهه مشرق بالاسارير حامدا الله تعالى على ما من عليه بعد فقده لبناته رقية وأم كلثوم وزينب. ومن قبل عبدالله والقاسم. وقد سرت البشرى في انحاء المدينة وان الرسول الكريم ينتظر مولودا من مارية المصرية فعمت الفرحة كل البيوت عدا بيوت بعض ازواجه اللواتي لم يستطعن الخروج من اسر الغيرة. وقد سهر عليها الرسول الكريم يرعاها ويعتني بها ويهتم لأمورها وساعدتها في ذلك اختها سيرين حتى بلغ الجنين اجله وحانت ساعة الولادة وكان ذلك في ليلة من ليالي شهر ذي الحجة سنة ثمان للهجرة.

وكانت التي قامت بالولادة القابلة (سلمى) زوج (ابي رافع) احد مواليه وهي التي كانت قابلة السيدة خديجة في اولادها. ولما جاءته البشرى بالغلام نفح البشير واكرمه واسرع إلى زوجته مارية القبطية التي اعتقها مهنئا لها بولدها وسلامتها وحمل الوليد بين يديه تغمره فرحة غامرة وقد اسماه ابراهيم تيمنا باسم ابي الانبياء ابراهيم عليه السلام، وقد تصدق على مساكين المدينة وتنافست المرضعات على ارضاعه فاختار مرضعة له وجعل في حيازتها سبعا من الماعز كي ترضعه بلبنها اذا جف ثدياها وكانت مرضعته ام بردة المنذر بن زيد بن خواس بن عامر وزوجها البراء بن اوس وبعد مرور سبعة ايام من ولادة ابراهيم احتفل الرسول الكريم به فقد عقّ عنه بشاة (عقيقه) وحلق رأسه وتصدق بزنة شعره فضه على المساكين وامر بشعره فدفن في الأرض.

وكان الرسول الكريم قد فرح فرحا كبيرا بابنه إلا انه لم يدم طويلا فقد مرض ابراهيم في عامه الثاني وحضرته الوفاة وهو لم يكمل الرضاعة بعد. ولما علم النبي الكريم بنبأ مرض ابنه اخذ بيد عبدالرحمن بن عوف وانطلق إلى مكان النخيل الذي فيه ابنه ابراهيم فوجده يجود بنفسه فأخذه ووضعه في حجره ثم بكى. وقد هرعت سيرين هي الاخرى إلى اختها مارية تواسيها فيما سمعت بنبأ مرض ابراهيم تواسيها بمرض ابنها وكان قد بلغ من العمر سبعة عشر شهرا لكن فرحة ابويه لم تكتمل، ولا راد لقضاء الله.

والرسول الكريم يقول: (إنا يا ابراهيم لا نغني عنك من الله شيئا) وانحنى الأب الحنون على جثمان فقيده الغالي فقبله والدمع يفيض من عينيه وهو يقول: (تدمع العين ويحزن القلب وإنا لفراقك يا ابراهيم لمحزون ولا نقول ما يسخط الرب)، واقبل الفضل بن العباس ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم فغسّل ابراهيم والرسول الكريم يرنو عليه في حزن بالغ ثم قام وصلى عليه وكبر اربعا ووري في البقيع واضجعه الرسول الكريم بيده في القبر ثم سوى عليه التراب ونداه بالماء. وطوى الرسول الكريم جرحه العميق في قلبه الكبير مؤمنا بقضاء الله وقدره واعتكفت مارية (في بيتها تتجمل بالصبر حتى لا تنكأ الجراح في قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام وكانت تستروح نفسها بزيارة البقيع تبكي وتفرغ ما في صدرها وقلبها من حزن وألم. ولم تطل ايام الرسول الكريم بعد موت ابراهيم في السنة العاشرة من الهجرة. فما اهل هلال ربيع الاول من السنة الثانية حتى شكا من الحمى التي لم تطل به بعيدا حتى لحق بالرفيق الاعلى صلوات الله وسلامه عليه.

وقد عاشت مارية بعد وفاة الرسول الكريم خمس سنوات في عزلة عن الناس ولا تكاد تلتقي احدا من الخلق سوى اختها سيرين ولا تغادر الدار إلا لكي تزور قبر الرسول الكريم ثم تعرج على وادي البقيع لتلقي نظرة على قبر وليدها الغائب ابراهيم.

وفي السنة السادسة عشرة من الهجرة في زمن خلافة عمر بن الخطاب انتقلت مارية ام ابراهيم إلى جوار ربها. وقد قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بحشد الناس لجنازتها ثم صلى عليها ودفنت بجوار ولدها (ابراهيم).