رؤى / «قلب الليل»... في عقل نجيب محفوظ

1 يناير 1970 08:21 ص
| عبدالعزيز الحشاش |



أصبحت عادة عندي أن أسحب كتابا من مكتبتي الخاصة، وأشرع في قراءته وأن لا أنتقل لكتاب آخر حتى أنتهي منه، وبرغم تنوع المكتبة واختلاف توجهات كتابها، إلا أنني بدأت أألف هذا التنوع وأشعر من خلاله أنني أغوص في كل مرة داخل رحلة في عقل كاتبه.

رحلتي الأخيرة كانت مع رواية للأديب الكبير نجيب محفوظ وهي بعنوان «قلب الليل». عشاق نجيب محفوظ والمهتمون بأعماله أكيد لم تفتهم قراءة هذه الرواية الجميلة، والتي تعتبر مقارنة برواياته الأخرى قصيرة نوعا ما.

محفوظ يأخذنا في هذه الرواية من عالم الخرافات والجن والعفاريت في حواري مصر القديمة... خان جعفر، الحسين والحلمية، الليل وخفاياه الغامضة، إلى حياة القصور والغنى والجاه... ثم يعيدنا إلى حياة التسول والصعاليك. كل هذا نراه في عيني جعفر الراوي الذي أخذ يحكي حكايته للموظف المسؤول عن الإرث الذي تركه له جده... والذي يكتشف في نهاية المطاف أن جده لم يترك له شيئا من ثروته... وأن ما تركه تحول إلى وقف يستفيد منه المحتاجون.

الموظف يروي لنا لقاءه في جعفر الراوي بعد أصبح رجلا كهلا، صعلوكا تحذفه الأيام أينما كان... وبعد أن كان يسكن القصور وبعد صولات ومغامرات زخرت بها حياته، أصبح ينام في الخرابه القديمة... على أنقاض قصر جده الراوي الكبير.

إن نجيب محفوظ في روايته هذه، التي أتت في 155 صفحة من القطع المتوسطة، ونشرت أول طبعة لها في عام 1975، يتناول حياة الإنسان... أي إنسان، الذي ينشأ طفلا قلبه وعقله كصفحة بيضاء... ثم سرعان ما تأثر به عوامل الحياة المختلفة فتشكل منه شخصيته، إنه هنا يتناول علاقة الفرد بالمجتمع... وكيف ممكن أن تؤثر البيئة التي يعيش فيها الإنسان عليه. ومحفوظ في هذه الرواية وضع بين أيدينا شخصية دائما ما تثير التساؤلات بينها وبين نفسها... وهي شخصية جعفر الراوي، حفيد الراوي الكبير الذي عرف بتصوفه وتدينه واشتهر بثروته وحبه للأهازيج الدينية والموشحات وإقامته للأمسيات، التي ينشد فيها أكبر المنشدون في مصر القديمة.

فيأخذنا في رحلة معه، ونرى كيف أن توفى والده وهو صغير، ونشأ في حي فقير مع أمه، التي لم يكن يعرف عنها شيئا.

ثم تتوفى أمه ويأخذه جده الراوي الكبير، فيكتشف جعفر بأن والده سليل عائلة الراوي المعروفة بثروتها وجاهها.

إن جعفر في تنقله وهو طفل من حال الفقر والعالم الخرافي، الذي تعيشه الحواري القديمة التي نشأ فيا، إلى انتقاله لبيت جده حيث التدين على أشده... وتحكمه العديد من القوانين التي لا يجب أن يحيد عنها وإلا فسيقع لغضب جده المتزمت، يجعلنا نتأمل في رحلة الإنسان والمراحل التي قد يمر بها ومدى تأثير الأمكنة والمجتمعات التي يحتك بها في شخصيته.

ثم سرعان ما نرى جعفر وقد كبر وشب وأصبح رجلا له تساؤلاته ورغبته الملحة في اكتشاف العالم الخارجي... خارج قصر الجد.

وتبدأ رحلة جعفر باكتشاف الحواري القديمة التي كان يسكن بها، وفي هذه المرحلة يضعنا محفوظ في مواجهة غرائزنا كبشر حيث أن جعفر الراوي هنا اتبع غريزته وتزوج من فتاة غجرية لا أصل لها ولا نسب.

ثم يطلقها جعفر ويتزوج من امرأة أخرى ثرية وتكبره في السن. ويدخل في الحياة السياسية، ويناضل في البحث عن مذهب أو فكر يعتنقه حتى يحقق ذاته ويجد نفسه فيه. فنجده يحاول أن يذيب الأفكار الماركسية والشيوعية والاسلامية جميعها في فكر واحد... ويعلن بأنه سيخرج بفكر جديد... واستشهد هنا بهذه الجزئية مما جاء على لسان جعفر في داخل فصول الرواية، والتي تبين لنا مدى تعمقه في الأفكار التي يستميت للتوصل من خلالها إلى معرفة المعنى الحقيقي لحياته، شأنه شأن أي إنسان آخر يسخر عقله للتأمل في الحياة، عندما قال: «لقد عشقت العقل وقدسته فأحببت تبعا لذلك الحقيقة، العقل هو ما يعمل بالمنطق والملاحظة والتجربة ليصل إلى حكم نقي تماما مما يخل بالمنطق والملاحظة والتجربة، وهو ما أسميته بالحقيقة. وهذا العقل يعتبر مخلوقا حديثا نسبيا إذا قيس بالغرائز والعواطف، فالذي يربط الانسان بالحياة غريزة، والذي يربطه بالبقاء غريزة، والذي يربطه بالتكاثر غريزة، ودور العقل في كل أولئك هو دور الخادم الذكي»*.

وهنا كانت قد وصلت شخصية جعفر إلى مرحلة من التحليل لدور العقل وتأثير الغريزة على الإنسان.

ولكن نهاية جعفر الراوي تكون مفاجأة. سأترك لكم معرفة النهاية من خلال قراءة هذه الرواية التي بمجرد أن تنتهي منها ستذهب في خيالك إلى التفكير بالانسان بشكل عام... كيف يبدأ وإلى أين ينتهي. هل نجعل الأيام تسيرنا كيفما تريد؟ أم نسيرها كيفما أردنا؟ هل جميعنا جعفر الراوي؟ نبحث عن أنفسنا في مجتمع يضج بالأفكار والتوجهات المختلفة؟ أم أننا سنخلق فكرا جديدا كما حاول هو وفعل؟ فينتهي بنا الأمر كما انتهى به؟ هل نهاية كل مفكر أن يصبح صعلوكا؟ أم أن حياة الصعاليك تخلق مفكرا؟

كانت هذه رواية قلب الليل... التي كانت في عقل نجيب محفوظ


* رواية «قلب الليل» لنجيب محفوظ، صفحة 117 - 118.

www.Abdlaziz.com