مرة أخرى النكبة ذاتها

1 يناير 1970 01:54 ص

في 15 مايو، عندما يحتفل الفلسطينيون في ذكرى ما يسمونه بالنكبة يجدر بهم أن يفكروا أيضاً بحقيقة أن فشلهم الحقيقي لم يقع في العام 1948. فقد وقع قبل ذلك، ويواصل الوقوع اليوم أيضاً. النكبة الحقيقية تقع الآن، امام ناظرينا – وناظريهم – يوم يوم، ساعة ساعة، والانقلاب العنيف لـ»حماس» في غزة هو فقط المثال الاخير على ذلك.

الفلسطينيون يرون أنفسهم – وبقدر كبير من الحق – كضحية نجاح الحركة الصهيونية في اقامة دولة يهودية في أرض اسرائيل. ولكن اسباب فشلهم التاريخي يجب البحث عنه في انعدام قدرة الحركة الوطنية الفلسطينية على خلق الاطار المؤسساتي، السياسي والاجتماعي، الذي هو البنية التحتية اللازمة لبناء الامة. مراجعة تاريخ الحركات القومي يثبت أنه لا يكفي الوعي الوطني، مهما كان قوياً: الحركات التي لم تنجح في خلق منظومة المؤسسات الحيوية لنجاح حركتها – فشلت.


درب الفشل

سيكون من الخطأ الاستخفاف بقوة الحركة الوطنية الفلسطينية. غير قليلين في المعسكر الصهيوني فشلوا في ذلك في الماضي، ويفشلون في ذلك اليوم أيضاً (رغم ان هناك كان من رأوا على نحو سليم: حاييم أرلوزوروف فهم منذ العام 1921 أن ما يقف امام الحركة الصهيونية حركة قومية وليس سلسلة من الاحداث العنيفة). غير أن الحركة الوطنية الفلسطينية تجر وراءها درباً طويلاً من الاخفاقات النابعة من عدم قدرتها على ان تقيم اطارا من الاجماع والتكافل: هذه الاخفاقات اضعفتها وفتتتها، ويبدو ان الفلسطينيين لم ينجحوا في التغلب على ذلك حتى اليوم.

التعبير الأول والأكثر حدة عن ذلك كان في ما حدث في اعوام 1936 و1939، أثناء الثورة الفلسطينية ضد الحكم البريطاني. هذه الثورة فشلت ليس فقط بسبب وحشية القمع الاستعماري البريطاني ونجاح «الهاغاناه» (الدفاع) في الدفاع عن الوجود السكاني اليهودي («اليشوف»). الفلسطينيون لم ينجحوا في أن يقيموا المؤسسات المقبولة من المجتمع العربي كله في البلاد، وعندما نشأت خلافات داخلية على سبيل الكفاح، تدهورت الثورة الى حرب اهلية فلسطينية داخلية بين الميليشيات المسلحة المتخاصمة.

عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في هذه الحرب الأهلية كان أكبر من عدد الفلسطينيين الذين قتلوا في المعارك مع الجيش البريطاني أو مع قوات «الهاغاناه». في المجتمع الفلسطيني يميلون الى كبت هذا الصراع العنيف، هو كبت يساهم فقط في تعظيم الفشل وعدم القدرة على التعلم منه.

في العام 1948 وقع فشل مشابه: رغم معارضة غالبية المجتمع الفلسطيني لقرار التقسيم للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947، فانه لم ينجح في ان يقيم جهازا سياسيا وعسكريا موحدا ليتنافس مع «اليشوف» اليهودي. اللجنة العربية العليا لم تكن ابدا اكثر من عصبة من الوجهاء التقليديين الذين لم يسيطروا على جهاز ناجح مثل «الدولة على الطريق» لدى «اليشوف» اليهودي.

المقاومة الفلسطينية العنيفة لقرار التقسيم وجد تعبيره في هجمات ميليشيات مسلحة في منطقة القدس، الجليل، منطقة يافا، عملوا من دون تنسيق وتوجيه، والهزيمة الفلسطينية نبعت بقدر غير قليل من انعدام القدرة على اقامة قيادة عسكرية مركزية. من يقف على رأس الميليشيات المسلحة – عبد القادر الحسيني، فوزي القاوقجي، حسن سلامة، لم يكونوا تابعين لاي سلطة مركزية. وإذا ما دعوا في «اليشوف» اليهودي هذه الميليشيات «عصابات»، فقد كان في هذا بالطبع بعدا دعائياً، ولكنه كان حقيقياً بقدر كبير.

كل من يعرف تاريخ «اليشوف» اليهودي في هذه البلاد سيقول ان هنا ايضا كانت مجموعات («المنسحبين») ممن لم يقبلوا بإمرة الغالبية، التي كانت تسمي نفسها «اليشوف المنظم». هذا بالطبع صحيح، ولكن في اللحظة الحرجة كان ذاك هو ديفيد بن غوريون الذي يتخذ القرارات المصيرية والتي ضمنت وحدة القيادة والشرعية السياسية؛ قضية «التلينا» هي خط الفصل في هذه المسألة. هكذا ضمنت الدولة الشابة ما رأى فيه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر ميزة للسيادة السياسية: وجود احتكار لاستخدام القوة. هذا لم يحصل في الوجود السكاني العربي في العام 1948.

والنتائج لم تتأخر في الوصول: ليس فقط الفشل في التصدي لـ «اليشوف» اليهودي، بل وكذلك عدم القدرة على الاستخلاص من الهزيمة حتى ولو ذرة من الإمرة الوطنية. لو كان للوجود السكاني العربي («اليشوف» العربي)، قيادة ذات شرعية واسعة، لكان يمكن التقدير بأنها ستتمكن من أن تقيم في اراضي بلاد إسرائيل المتبقية تحت سيطرة عربية كيانا وطنيا فلسطينيا. ولكن عندما أقيمت في غزة «حكومة عموم فلسطين» بقيادة المفتي الحاج أمين الحسيني، كانت هذه حكومة دمى مصرية، لم تنجح أبداً في أن تفرض إمرتها على مناطق الضفة الغربية التي تحت سيطرة الأردن، وسرعان ما اختفت عن الوجود.

التاريخ الفلسطيني كان بوسعه أن يكون مغايراً لو كان للفلسطينيين مؤسسات ومنظومة تنظيمية تستطيع التصدي للاحتلال المصري في غزة ولإلحاق الأردني للضفة، ومحاولة انتزاع دولة فلسطينية من براثن فشل 1948.

الفلسطينيون يميلون لأن ينسبوا سلسلة الإخفاقات هذه الى ضعفهم والى الظروف الصعب التي كانوا يعيشونها بعد الهزيمة العسكرية امام إسرائيل. هذا صحيح من ناحية معينة، ولكنه غير ذي صلة: الحركات الوطنية لا تقوم في ظروف سهلة؛ دوما عليها أن تتصدى للأعداء، للحكام الأجانب، للاحتلال. وكي لا نبتعد في الإفادة، يكفي أن نقارن فشل الفلسطينيين بنجاح الحركة الوطنية في الجزائر: الحركة الوطنية الجزائرية خلقت منظومة تنظيمية، سياسية وعسكرية لم تنجح فقط في التصدي لحكم الاحتلال الفرنسي – الذي كان قوياً ووحشياً أكثر بإضعاف من الحركة الصهيونية – بل تمكنت أيضاً، وليس من دون مشاكل في خلق بنية تحتية لإقامة دولة الجزائر المستقلة.


ميليشيات مسلحة

التحطم بحكم الأمر الواقع للسلطة الفلسطينية في أعقاب انقلاب حماس في غزة هو استمرار لهذا الفشل. الان ايضا يميل الفلسطينيون الى اتهام اسرائيل، الأميركيين، الأسرة الدولية؛ ولكن المسؤولية الحقيقية والجوهرية في نهاية المطاف عليهم.

إذاً ماذا كان عليه تسلسل الاحداث: جرت انتخابات، «حماس» انتصرت، «فتح» خسرت. ولكن الجهتين لم تنجحا في اقامة اطار مخول مشترك. يجدر بالذكر ان «فتح» و«حماس» ليستا فقط حزبين يعملان في اطار إجماع ديموقراطي. بل هما ميلشيتان مسلحتان وقوتهما الانتخابية تنبع بقدر غير قليل من قدراتهما المسلحة. المحاولات كلها عموماً عربية، مثل «اتفاق مكة» بوساطة السعودية، فشلت حيال هذا الواقع، الذي يدل بانه في نهاية المطاف مصدر القوة في المجتمع الفلسطيني ينبع (على حد قول ماو تسي تونغ في سياق اخر) من فوهة البندقية.

الانقلاب العسكري العنيف لحركة «حماس» في غزة ضد ما كان يفترض به أن يكون مركز الشرعية الفلسطينية ليس سوى عود، في ظروف مغايرة، الى حرب العصابات الفلسطينية في عامي 1938 – 1939. حقيقة أنه لا يوجد نموذج لدولة ديموقراطية عربية يمكن محاكاتها هي ايضا حقيقة لا تسهل الامور. ونزعاً للشك: لا تقال هذه الامور للشك في شرعية الحركة الفلسطينية وفي حق الفلسطينيين في دولة. المقصود منها الإشارة الى فشل اجتماعي داخلي عميق، يمتنع الفلسطينيون عن التصدي له وإسرائيليون كثيرون يتجاهلونه –سواء لأن القسم الاكبر من الخطاب الاسرائيلي في الموضوع الفلسطيني يتركز على الجانب الامني فقط، أم لأنه في محافل اليسار الإسرائيلي، الذي يقلق أعضاؤه – وعن حق – من استمرار الاحتلال الاسرائيلي، يمتنعون عن القاء أي مسؤولية على الفلسطينيين لاسباب السلامة الفكرية السياسية. هذا النهج المتسيد لا يساعد الفلسطينيين.

ما يجري الآن في غزة هو النكبة الفلسطينية الحقيقية: الميل الفلسطيني لاتهام عناصر خارجية يشوش فقط الأمر. واضح ان المجتمع الفلسطيني يوجد في ضائقة، وأن جزءاً غير صغير من هذه الضائقة ينبع من 40 عاماً من الاحتلال ولكن هذه ذريعة سهلة جدا: في الأعوام ما بعد 1945 كان سهلا على «اليشوف» اليهودي أن يتهم الحكم البريطاني، المقاومة العربية، صدمة الكارثة ويواصل الغرق في هذا المستنقع كي يشرح لماذا لا يمكن اقامة دولة يهودية في ظروف صعبة في هذا القدر.

ولكن في اطار الحركة الصهيونية، كما أقامها هرتسل، بمؤسساتها المنتخبة؛ بتعدديتها الحزبية، والتي كانت متداخلة مع ذلك بتكافل اساس؛ بالامرة الوطني التي تبلورت رغم ظاهرة «الانسحاب» هذه كلها شكلت اساسا تنظيميا ومؤسساتيا سمحت بتجنيد المصادر البشرية والاقتصادية للتصدي للواقع الصعب بعد قرار التقسيم.

مصير الفلسطينيين على الكفة – وهو في ايديهم. من يدرس تاريخهم حتى الآن سيجد من الصعب التصديق في أن تنجح «فتح» و«حماس» في تسوية الخلاف بينهما واقامة اطار شرعي مشترك. يحتمل أن تدفع مصر او السعودية الى التوقيع على مثل هذه الورقة أو تلك، مثل «اتفاق مكة»، ولكن ليست قطعة ورق مطلوبة هنا، بل اطار تنظيمي ومؤسساتي ناجع. هذا الإطار يجب ان يتضمن حلا للميليشيات المسلحة وائتمان احتكار استخدام القوة في يد سلطة وطنية واحدة. من دون هذا كله لا فرصة أيضاً للاتفاق مع إسرائيل، وهو الحيوي لإقامة دولة فلسطينية.

على الأمور أن تقال بوضوح، مهما كانت قاسية: إذا لم ينجح الفلسطينيون في إنقاذ أنفسهم من ارثهم التاريخي الصعب، فلن تكون لهم دولة، وهذا سيء لهم وهو سيء لإسرائيل.


البروفيسور شلومو أفنيري

مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية السابق

«هآرتس»