مذكرات السادات ... خلف أسوار السجن 8 / شهادة كبار السياسيين في القضية ... «فشل السياسة في مصر»
في السجن... كتب «الله لطيف وجميل»!
1 يناير 1970
05:15 م
| القاهرة - «الراي» |
للرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات جوانب خفية في شخصيته، ليست معروفة على نطاق واسع، تكشفها «مذكرات السادات في السجن»، والتي** حصل على تفاصيلها الكاتب الصحافي المصري محمود صلاح، وكشف عن تفاصيلها لـ «الراي»، في حلقات تنشر متتالية، وهي في أربعينات القرن الماضي وقبيل قيام ثورة يوليو 1952، حيث تظهر أن السادات شكل أول تنظيم سري داخل الجيش المصري... وسعى أكثر من مرة لاتصال تنظيمه بالألمان وقت الحرب العالمية الثانية لإبلاغهم باستعداد هذا التنظيم للقتال ضد قوات الاحتلال الإنكليزي في مصر، في مقابل حصولها على الاستقلال بعد نهاية الحرب، ودبر محاولة لإخراج
الفريق عزيز المصري سرا من مصر، بالاتفاق مع الألمان، لمساندة ثورة رشيد الكيلاني ضد الإنكليز في العراق، ولم يتردد في مساعدة جاسوس ألماني، فعرف طريقه إلى السجن للمرة الأولى في حياته، وبعد خروجه أمضى فترة عصيبة من حياته.
بعد أن فقد وظيفته كضابط برتبة يوزباشي «نقيب»، ولم تثنه المعاناة عن طريق العمل السياسي السري لمواجهة الاحتلال البريطاني لمصر، إلى أن دخل السجن مرة أخرى متهما مع آخرين بقتل وزير المالية الأسبق أمين عثمان، فيما اعتبر وقتها- أهم قضية سياسية في مصر.
حياة السجن والتشرد، أكسبت، بحسب كاتب المذكرات، شخصية السادات درجة من الصلابة والعزم، وقدرات خاصة على مقاومة السلطة الظالمة، وأتاحت له في بعض الأوقات عندما كانت إدارات السجون تخفف من قبضتها عليه - فرصة للتأمل والقراءة العميقة،
وأكسبته أيضا قدرة على التعامل مع الآخرين في المواقف العصيبة، وأعطته نوعا من التدريب العملي على الإصرار على تحقيق الهدف، والصبر والجلد في مواجهة الظروف غير المواتية حتى تحين اللحظة المناسبة.
وتكشف مذكراته في السجن أيضا عن تكتيك أصيل في ممارسة السادات السياسية - والتي ظهرت بوضوح في ما بعد عندما أصبح رئيسا لمصر- هو الجرأة الشديدة ومفاجأة الخصم بخطوة غير متوقعة... فها هو السادات في لحظة ما من سجنه يقرر الهروب ليبلغ الملك فاروق في قصر عابدين، والرأي العام في مصر كلها، برسالة احتجاج على الأوضاع في السجون، ثم يعود بمحض إرادته في اليوم التالي.
القاهرة - من محمود صلاح
«بعد عامين من اليأس عاد الأمل للسادات ورفاقه المعتقلين على ذمة قضية اغتيال أمين عثمان، فقد بدأ نظر القضية. وفي مذكراته يعلق السادات على مواقف كبار السياسيين الذين حضروا للإدلاء بشهاداتهم أمام المحكمة، ومن بينهم الزعيم الوفدي رئيس الوزراء الأسبق مصطفى النحاس باشا إلى رجل القصر رئيس الوزراء الأسبق أيضا حسين سري باشا... فلا يتغير رأيه فيهم بل يتأكد له أن المسؤولية عن خراب البلاد تقع على أكتاف عصبة من السياسيين الفاسدين وحليفتهم بريطانيا «دولة الاحتلال»، وأن السياسة فاشلة في مصر على وجه لا يصدقه العقل».
ويرصد السادات حالة الفرح وارتفاع المعنويات مع العودة إلى نظر القضية رغم التأجيلات المتوالية، وكيف احتفل ورفاقه في السجن بالمناسبة، فنظموا مهرجانا يخففون به عن نفوسهم كربا كان حبيسا مكتوما، وكيف أنهم عاودوا نشاطهم السابق، من القراءة بينهم إلى تفكير الطلبة من بين المتهمين في مدارسهم بعد أن كانوا قد أهملوها لما يزيد على العامين، وكل يرسم لنفسه الطريق الذي سيسلكه عقب خروجه، إلى جانب تحسن المعاملة إلى حد أن النيابة سمحت للمرضى منهم ممن لا يجدون علاجا في السجن لأول مرة بالخروج تحت الحراسة للعلاج عند الأطباء المتخصصين على نفقتهم الخاصة.
في نهاية عام 1947 يكتب السادات في يومياته:
أول ديسمبر 1947:
... وأخيرا بدأ نظر القضية بعد عامين طويلين طفحا بالألم، ولكن الله لطيف وجميل، إذ شاءت إرادته أن يحنو ويرحم، فملأ نفسي بحلاوة الأمل، وها هو ذا الأمر قد أوشك أن يبين، وهأنذا داخل القضبان في الغرفة رقم 54 أتحدث إلى نفسي حديث المسافر الذي أوشكت رحلته على النهاية، فهو تعب من طول الطريق، ومن طول ما تحمل من مشقاته، وهو جزع من صدمة الوصول ورهبة اللقاء، لأن نفسه قد أذبلها الأمل، وأحرقها الفراق!
2 ديسمبر 1947:
طالما اشتقت لرؤية أولئك السادة الذين يطلقون على أنفسهم زعماء، ولقد كانت فرصة جميلة تلك التي أتاحتها لي القضية لأراهم يؤدون الشهادة.
وكم طابت نفسي حينما تولى المحامون تشريحهم أمام منصة القضاء..
كان يخيل إليَّ أنني أشاهد «صندوق الدنيا» يعرض: السفيرة عزيزة، ويونس الجميل، والفارس الغضبان!
وكان مصطفى النحاس باشا أول من طالعنا، وهنا أقف قليلا وأعود بذاكرتي إلى الوراء، فكم أحفظ له من ذكريات..
أذكرني في العاشرة من عمري، وكنت أقطن كوبري القبة.
وأذكر كيف كنا نجتمع نحن «أولاد الحتة» لنحيي الرئيس الجليل كل ليلة عند عودته من بيت الأمة إلى مصر الجديدة مارا بضاحيتنا.. وأذكر جيدا كيف كانت تتملكني الرهبة لهذا اللقاء العابر..
وأذكره وأنا في السادسة عشرة، حينما عاد من أوروبا ولقبه «ذو الرياسات الثلاث»، وقصفت له المدافع وقرعت له الطبول، وكانت هذه الطبول وتلك المدافع إيذانا بنهاية البداية، إذ ولدت معاهدة 1936..
ثم تقفز بي الأيام فأذكره وأنا في الثالثة والعشرين حاكما عسكريا تولى الحكم في 4 فبراير 1942، وكانت هذه بداية النهاية...
ثم انتهى بي الأمر أن أراه أمس يقف في ساحة القضاء المقدسة..
تكلم النحاس باشا وأسهب في الحديث، واجتاز مواطن الحرج في غموض شعرنا به وأسفنا له..
10 ديسمبر 1947:
الصور تتوالى في صندوق الدنيا..!
رأينا حسين سري باشا على شاشة الصندوق أحسن من يمثل «نفشة» الديك الرومي، وانتفاخ الأوداج.
ورأينا هيكل باشا يشهد بما تفوه به كيلرن تعديا وتحديا..
ورأينا حافظ رمضان باشا يقول «أنا لا أسمع إلا بأذن واحدة، ونصف ما أسمعه بها كلام فارغ» وكانت حكمة!
ورأينا زكي علي باشا يشهد شهادة القاضي الدقيق ويقرر الحقيقة في قوة ولباقة..
ورأينا بهي الدين بركات باشا يتحدث في السياسة حديث «الجنتلمان» المتزن في غير حزبية، ثم انتقل إلى الاقتصاد فكان العالم الواثق من نفسه، وأقر بوضوح خراب البلاد على أيدي عصبة السياسيين وحليفتهم!
وسمعنا وسمعنا..
سمعنا عجبا وألما، ورأينا على المشرحة أولئك الذين قادوا البلاد خلال ربع قرن أو يزيد، فما تغير رأيي المتواضع فيهم أبدا!
يا قوي يا مواطني: اعلموا أن السياسة فاشلة في بلادنا على وجه لا يصدقه العقل!
يا قوي: لن يغير الله ما بنا حتى نغير ما بأنفسنا.
ديسمبر 1947:
أدى رجال البوليس السياسي الشهادة، وأداها أيضا وكيل النيابة المحقق، والنائب العمومي السابق.
سيبقي هذا الإجراء فخرا وعلما على قدسية العدالة وسمو قضائنا ونزاهته، فهنيئا لك يا عبداللطيف بك أنت وحمدي بك وخليل بك.. كان البوليس السياسي وقتذاك أداة للدس وخادما للمستعمر وللشهوات الحزبية، وما عهد بدر الدين وفلبيدس وقضية القنابل منا ببعيد، ومن سخرية القدر أنهم أحاطوا أنفسهم وأعمالهم بقدسية خافها الجميع، ووافق عليها الجميع أيضا، ولطالما فاحت من أوراقهم أبشع الخيانات والفضائح.
لقد كان درسا بليغا ذلك الذي لقنته المحكمة لأولئك القوم، سيذكرونه وسيذكره الجميع.
30 يناير 1948:
ويجعل الله بعد عسر يسرا..
إلى هذا الوقت كان وجه القضية مظلما يحيط به الغموض، ولكننا الآن نضحك ملء أفواهنا وبكل قلوبنا، لأول مرة في هذا المكان.. فقد أنزلت المحكمة قضاءها العادل بالعابثين.. إننا نضحك ونبكي في وقت واحد! يارب إنها هيستيريا الانتصار بعد ظلام الهزيمة.. لم يعد يهمنا حكم المحكمة أيا كان، فقد طابت نفوسنا لهذا الحكم الابتدائي.
20 فبراير 1948:
استخف بنا الفرح فنظمنا أمس لأول مرة، مهرجانا نفسنا فيه عن نفوسنا كربا كان حبيسا مكتوما، وكم يطيب لي أن أروي في هذه الصفحات وصفا لهذا المهرجان «الهيستيري»، لعلي أتمتع بقراءته في الخارج في يوم من الأيام:
كان المهرجان سهرة في قصر هارون الرشيد، واشتركنا جميعا في وضعه وتمثيله وإخراجه، والاستمتاع به في آن واحد!
وكان توزيع الأدوار كالآتي:
أنور السادات: هارون الرشيد (الخليفة)
حسين توفيق: السياف عبدالله
السيد خميس: القهرمانة وكبيرة القيان
سعيد توفيق: كبير الحجاب
مدحت فخري: شهر زاد الراقصة المغرية
عمر أبوعلي: إسحق الموصلي
أحمد وسيم ومحمد كريم: فتيات الكورس
محجوب الجوهري: بائع اللب
مراد: الخواجة ورئيس وفد الفرنجة
وتبدأ السهرة بأن يشير الخليفة إلى القهرمانة لتدير العزف والغناء، فيرتفع صوتها هي وفتيات الكورس في توشيح جميل:
بالذي أسكر من خمر اللما
كل مسجون أسيف وحبا
والذي أجرى دموعي عندما
أخرج.. والظلم سوا
ويطرب الخليفة فيستعيد النغم مثنى وثلاث، ويطرب الحضور فيندفع الجميع في جو كله طرب وحبور.. ثم يهدأ الجو، ويشير الخليفة إلى القهرمانة لتغني أحدث ألحان الموصلي قائلا في نشوة:
« أطربينا يا قهرمانة وابعثي في الجو أشهى الألحان»، ولتغن القيان وليحرق البخور في أرجاء المكان»، فتنحني القهرمانة أدبا وخضوعا، وفي حنان ورقة يرتفع الغناء فيعم الرجاء:
جانا الخليفة جانا والسعد أهو ويانا
في مجلسه حيانا وبخمرته سقانا
وتأخذ القهرمانة والقيان في ترديد النغم على مختلف الألحان، والموصلي يهتز للأوزان، فيأخذ الطرب بمجامع الخليفة فلا يتمالك من أن يندفع ويرد على القيان:
أنا جيت لكم والله ياولاد
أنا أحبكم أوي أوي ياولاد
أنا جيت لكم أنا جيت
دا الاتهام لخبيط!!
وترتفع في الجو النشوة، ويتمايل الخليفة يمنة ويسرة، ويعم السرور ويعبق البخور، وهنا يدخل كبير الحجاب مستأذنا في دخول وفد الفرنجة ليقدم الهدايا للخليفة، فيأذن ويدخل رئيس الوفد والمجلس كله وقار وسكون، والخليفة معمم بعمامة الخلافة الشاهية، ويقدم رئيس الوفد للخليفة هداياه النفيسة من السجاير المعدومة في مملكة الخليفة: ثم يطلب باسم عاهل الرومان عقد معاهدة تحالف وإخاء، فيقف السياف عبدالله معارضا في هذه المعاهدة، «ويزوم» الحضور ويزمجرون ويطلبون إلى الخليفة ألا يتعاون مع الأجانب الذين لا يحفظون العهود ولا يحترمون الحدود، ويدير الخليفة المناقشة في هدوء، ولكن يندفع السياف طالبا السماح له بقطع رقبة رئيس وفد الفرنجة. وفي الوقت نفسه ترتفع في المكان أصوات تقول «اقلب.. اقلب.. بلدي»، فلا يسع الخليفة إلا أن يشير إلى القهرمانة فتندفع هذه هي والقيان في لحن بلدي:
طل على الحليوه من طجان البيت
جلت الجمر في السما واش دلدله عالحيط
يا يا يا يا بوي يا بوي...
ثم يعود الوقار إلى المجلس ثانية ويهدئ الخليفة من روع القوم، ويؤكد أنه لا يتعاون مع الأجانب إلا ندا لند على أساس احترام حدود الخلافة، ويهدأ السياف، وينصرف رئيس وفد الرومان مودعا بالشتائم والسباب، ثم يطلب الخليفة إلى القهرمانة أحدث مواويل الموصل التي تبعث في النفس الصبر والسلوان، فتنشد مع القيان:
نامت عيونك وعين الله ما نامت
ما في ولا شدة على مخلوقها دامت
وإن دامت الشدة ما يدوم صاحبها
راحت البال الهنا يا ليتها دامت
هنا يطرب الخليفة ويستزيد، وتنشد القيان وتعيد، وتندفع الراقصة المغرية شهرزاد في أحدث الرقصات على نغمات الموال، ويصيح الخليفة منفرط النشوة:
هدهدوني هدهدوني
اطربوني اطربوني
ويردد الجميع كلمات الخليفة، ويضج المكان بمختلف الألحان، وتعيد القيان في نشوة وحنان، وينتهز بياع اللب هذه الفرصة فينادي على بضاعته بصوت نشاز، فيأمر الخليفة بإخراجه من المكان، ويحل وقت العودة إلى الزنزانات فينتهي الحفل بين رنين الضحكات، وباسم الثغور، وبالغ البهجة والحبور... وغضب السجانين وصك الأقفال!
20 مارس 1948:
يسيطر المرح على الجو برغم التأجيلات المتوالية... عاودنا نشاطنا السابق: فالقراءة على أشدها، والكتب تنهمر علينا من الخارج، وعاد الطلبة من المتهمين يفكرون في مدارسهم بعد أن أهملوا ذلك سنتين أو أكثر، وكل يرسم لنفسه الطريق الذي سيسلكه عقب خروجه... الروح المعنوية في أقصى درجات ارتفاعها!
إنه الأمل بعد طول انتظار... اللهم حقق لنا الآمال.
30 مارس 1948:
حدث اليوم أن كنا في طابور الصباح فقدم إلينا المدعو عبدالله زيدان مساعد العشماوي، وجعل يحدثنا عن عمليات الشنق التي باشرها في الأربع عشرة مديرية على حد قوله، ثم داعبنا بأن أخذ يعاين رقبة كل منا، ويصف له الحبل الذي يناسبه، والمدة التي يستغرقها النبض... وكان حديثه مدار دعابتنا طول اليوم!
11 أبريل 1948:
ترافعت النيابة أمس واليوم، وقد استهل الأستاذ أنور حبيب مرافعته أمس استهلالا خالدا هز مشاعرنا وأبهج قلوبنا ونحن جلوس في قفص الاتهام، واليوم أتى النائب العمومي «لينسخ» ما قاله الأستاذ أنور، ولكن هيهات.. لقد عاب على تشبيهات وردت في حق الخليفة على لسان الأستاذ أنور، ونسي أننا شتمنا أكثر من مرة من منبر برلمان الخليفة الموقرة، ونسي سنة 1882، ونسي فظائع المستعمرين، ونسي أرواح الشهداء إلى اليوم!
24 أبريل 1948:
بدأ الدفاع، وهو آخر مراحل هذا الجيل من السجن والاتهام...
أبريل 1948:
للمرة الأولى منذ أكثر من سنتين سمحت النيابة للمرضى منا الذين لا يجدون علاجا في السجن بالخروج تحت الحراسة للعلاج عند الأطباء المختصين على نفقتهم الخاصة، وأول من سمح له بذلك هو مدحت فخري، وقد عاد اليوم يحدثنا حديثا عجبا... لقد جلس على كراسي من الجلد، وتناول قهوة باللبن عند الدكتور! وفي طريقه إلى العيادة رأى ثكنات قصر النيل بعد أن آلت إلى أصحابها، ورأى السماء غير مخططة بقضبان الشبابيك، وقال إنها واسعة والنظر إليها يبهج النفس! ورأى النيل، ورأى ورأى، ما أعاد القاهرة إلى أذهاننا بعد أن كدنا ننسى معالم الحياة فيها!
يونيو 1948:
فجأة... ودون أن يعلم أحد، هرب حسين توفيق!
لقد وصلنا الخبر أول ما وصل، على وجه السجانين والضباط، ثم انهالت علينا القيود والتشديدات، وعدنا إلى سالف العصر والأوان!
لقد كان حسين شرا في وجوده، وشرا في هروبه!! ففي وجوده كان خير من يثير عنيف المناقشات «وزعيرة» الجو بالتكهنات والخرافات، ثم هرب فكان سببا فيما نزل بنا من كبت وإرهاق! اللهم سامحه وألطف به وبنا.
7 يوليو 1948:
انتهى اليوم الدفاع، وتأجلت القضية إلى جلسة 24 يوليو للنطق بالحكم.
8 يوليو 1948:
بدأ اليوم رمضان:
ولرمضان في النفس رهبة ونشوة، فالرهبة وليدة التكريم الذي خص الله به هذا الشهر دون بقية الشهور، وهي وليدة المجهود الذي يبذله الإنسان في مغالبة نفسه للتحكم في شهواته.
وأما النشوة فهي وليدة الانتصار، حين يفطر الإنسان في نهاية اليوم ويشعر أنه تغلب طيلة اليوم على شهواته، وما تعرض له من مغريات.
والمزيج من هذه النشوة وتلك الرهبة كفيل بأن يشغل على الإنسان فكره وجنانه، وحسه ووجدانه، بحيث لا يبقى لغير هذين العاملين محل في النفس.
ولكن...
حل علينا برهبته ونشوته، والنفس مشغولة كأشد ما يكون الانشغال والقلب يتلهف... والانفعالات تعتمل في عنف وهدير... ولا عجب فنحن اليوم على أبواب المصير.
لا أستطيع أن أصور ما سيكون عليه الحال خلال هذا التأجيل للحكم، ولكنني جزع من طول هذه المدة... جزع من فرط ما أخشى من الغيب.
ولكن... لم الجزع ولمَِ الخوف يا نفس؟!
ألم يقل سبحانه وتعالى «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا»... أليست حياتي هذه من صنع الله وتيسيره، وهو الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما.
يا نفس اثبتي ولا تضعفنك الدنيا، واعلمي أن الحكم لله، والأمر لله... واحتفظي بالقوة والعزة تعودي إلى ربك راضية مرضية وتدخلي جنته.< p>