محمد طيفوري / التحول الديموقراطي التركي رؤية من الداخل
1 يناير 1970
07:23 ص
«إنني لم أترك أي فكرة جامدة أو قالب معين أو آية كميراث معنوي. وإنما ميراثي المعنوي هو العلم والعقل. إن الزمن يتقدم بسرعة ومفهوم الأمة يتغير، ومفهوم المجتمعات يتغير، وهكذا فإن الادعاء بأن شخصا قد أتى بأحكام لا تقبل التغيير أبدا في عصر ما فيه إنكار لتطور العقل والعلم».
مصطفى كمال أتاتورك
هبت رياح التغيير على بعض الأقطار العربية منذ ما يربو عن سنتين من الآن، فصار مطلب الحرية والديموقراطية ودولة القانون يتردد على أكثر من لسان، وأضحى الالتحاق بنادي الديموقراطيات حلم الشعوب المنعتقة من نير النظم الاستبدادية وجور طغاتها. وبين المطالب والأحلام صارت بعض الدول العربية تبحث لها عن نموذج أو مثل تسير على هديه في تجربة الانتقال الديموقراطي.
لاحت في الأفق العديد من التجارب التي شهدتها بعض الدول الأوروبية بشقيها الشرقي والغربي (إسبانيا، التشيك،)، وأميركا اللاتينية (الشيلي، السلفادور، البرازيل) والتي نقلت هذه البلدان من ضيق السلطوية إلى رحابة الديموقراطية. غير أن التجربة التركية في الانتقال الديموقراطي فرضت نفسها بقوة على البلدان العربية رغم البعد الجغرافي، وذلك مرده إلى جملة من القواسم المشتركة بين هذه البلدان (الدين الإسلامي، التاريخ المشترك).
عن هذا النموذج الذي يسوق إعلاميا في المنطقة يتحدث كتاب «التحول الديموقراطي في تركيا» الصادر سنة 2012 بدعم من مؤسسة فريديرش ناومن من أجل الحرية، سعيا منها لتقريب النموذج التركي إلى القراء العرب وتحليل العوامل والميكانزمات الفاعلة فيه.
ولا بد من تسجيل ملاحظتين أساسيتين حول الكتاب قبل التوقف عند مضامين بعض فصوله وهما:
- المساهمون في الكتاب أتراك من تخصصات علمية مختلفة، ما يمكن من تقديم زوايا نظر متعددة من الداخل التركي.
- فصول الكتاب السبعة رؤية ممن عايشوا التجربة التركية وتابعوها عن كتب من أبناء تركيا، وجعلوا من شرط الانتماء شرطا مؤسسا للفهم لا عائقا أمام الموضوعية في الطرح.
إن مقالة من هذا النوع تنأى عن التفصيل في محاور الكتاب السبعة، لذا سوف نتوقف عند أبرز الفصول التي تكشف عن مفاصل التحول في التجربة التركية.
خصص الفصل الأول من الكتاب للاقتصاد باعتباره قاطرة التحول في النموذج التركي، وجاء تحت عنوان «الانتقال من الدولتية إلى اقتصاد السوق الحرة» بقلم أردل تورك فان أحد المستشارين بهيئة الرقابة، فصل هذا الباحث في المراحل التي عرفها منها الاقتصاد التركي والمخاض الذي مر منه (اقتصاد دولتية، اقتصاد مختلط، اقتصاد السوق) قبل أن يتبوأ مراتب الصدارة في التصنيف العالمي ( المرتبة 17 عالميا).
هذا ويشير إلى أن هذا الإقلاع الاقتصادي لم يكن وليدة لحظة عابرة، بل حصيلة سياسات اقتصادية متغيرة تطلبت تطبيقها في الاقتصاد التركي سنوات (منذ الثمانينات)، وبتكلفة مالية مهمة في بعض الأحيان. ويصل الكاتب في نهاية دراسته إلى أن هذا الانتقال من الاقتصاد الدولتية إلى اقتصاد السوق الحرة لم يكن ليتم في تركيا لولا تضافر عوامل داخلية، وأخرى خارجية ساهمت بشكل فعال في هذا الانتقال.
ونخلص في النهاية إلى أن شرط الانتقال من نمط اقتصادي إلى اقتصادي السوق الحرة هو شلل النظام الموجود وتعثره وانسداد أفقه، بالإضافة إلى وجود محفزات داخلية وخارجية إلى جانب إرادة سياسية حقيقة ترغب في تحقيق ذلك.
أما عن مسار دولة المؤسسات في التجربة التركية فقد ساهم القاضي بالمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان رضا تورمن بدراسة بعنوان «تطور دولة القانون في تركيا»، استهلها بتحديد الإطار المفاهيمي لدولة القانون القائم على شرطي سيادة الشعب بواسطة الانتخابات (الجانب الشكلي للديموقراطية)، ونظام القيم من حقوق الإنسان وفصل السلطة واستقلال القضاء... الجانب الجوهري للديموقراطية).
يبرز الكاتب في ذات السياق الخاصية الكبرى لدولة القانون ألا وهي تقاسم السلطة وتأسيس رقابة قانونية على السلطة. حيث يقول بعد استعراض مسار دولة القانون عبر التاريخ بدءا من انكلترا مرورا بأميركا - مهد دولة القانون - وصولا إلى بعض البلدان الأوروبية «إن تطور دولة القانون عبر التاريخ هو في الحقيقة حكاية تقييد وتحديد صلاحيات السلطة بالقانون».
بعد هذا السرد الطويل لتطور دولة القانون يبحث التطور الكرونولوجي لهذا المفهوم في السياق التركي، ويدقق في المراحل التي عرفتها دولة القانون في تركيا. مفصلا مختلف المراحل بدءا بسند الاتفاق بين الأعيان والسلطان سنة 1808، مرورا بفرمان الإصلاح الذي جاء نتيجة ضغوط خارجية عام 1856، ليتوقف بعدها عند المشروطيتين (1) الأولى (1876) والثانية (1908) هذه الأخيرة أفزرت ولادة أول دستور عثماني، وصولا إلى دستور الحريات وحماية الحقوق الفردية سنة 1960.
هذا الدستور الذي عرف دولة القانون بأنها: «دولة تحترم الإنسان وتحمي الحقوق، وتؤسس نظاما قانونيا عادلا، وتبذل كل ما في وسعها لاستمرار واتباع القانون في كل ما تقوم به». وأعطى هذا الدستور أهمية لثلاثة عناصر من أجل تحقيق دولة القانون هي استقلال القضاء والمحكمة الدستورية والمحكمة الإدارية، وبهذا تصير كل أعمال الدولة وتصرفاتها مقيدة وخاضعة لرقابة القضاء.
لكن انقلاب 1980 حمل معه دستورا سلطويا قوميا كرس سلطة الدولة من جديد ضدا على روح دستور 1960، واستمر العمل بهذا الدستور إلى غاية 2010 حيث أدخلت عليه عدة تعديلات، والتي لم تحل إدخالها دون بقاء بعض المشكلات التي تعترض قيام دولة القانون بمفهومها الحقيقي في تركيا خاصة في الجانب المتعلق باستقلال القضاء وحصانة النواب التشريعية الواسعة.
كان الفصل المخصص للإسلام السياسي في تركيا من الفصول المحورية في الكتاب، والأساسية لفهم حقيقة النموذج التركي، حرر بقلم جنيد أولسفر تحت عنوان «صعود الإسلام السياسي في ضوء الفاعليات الاجتماعية في تركيا». يفتتح الكاتب دراسته بحقيقة صادمة غايتها موقع الإنسان التركي في سياقه التاريخي، حيث يرى أنه بعيدا عن الفترة الليبرالية بحجة أن الأمة التركية لا تزال تعيش بروح الجماعة منذ العهد العثماني في مقابل ضمور وخفوت دور الفرد الذي عليه تقوم الليبرالية.
ويضيف أن أكبر عائق أمام الفرد في تركيا هو الدولة وأجهزتها، ويعلق بنوع من الحسرة على الوضع قائلا: «الدولة التي اعتمدت علينا ووثقت بنا في حرب الاستقلال، فقدت هذه الثقة في صراع الوصول إلى المدنية المعاصرة، وأخذت تعطي المواطن حقوقه كأنها تحسن إليه أو تمن عليه وتسترجعها عندما تريد».
ويعرج بعدها على دور الدين في المجتمع التركي الذي يرى أنه المحدد الأساسي للهوية الاجتماعية للمواطن التركي لا أقل ولا أكثر. ويرى أن الإسلام هو المحرك للغالبية الصامتة للمجتمع التركي في الحد الذي لا يضايقها في حياتها اليومية.
ثم يختم ورقته بالتوقف عند تجربة بعض الأحزاب ذات المرجعية الاسلامية مثل حزب الرفاه ومساراتها قبل وأثناء وبعد السلطة، ثم بعده حزب العدالة والتنمية الذي يربطه بشخص طيب رجل أردوغان - شخصية كاريزمية - الذي استفاد من أخطاء من سبقوه إلى الحكم، وسيّر الدولة بطريقة مكنته من توسيع قواعده وكسب أصوات الجماهير دون أي توظيف للدين في السياسة. أكثر من ذلك يرى الكاتب أن تأثير المرجعية الإسلامية ضئيل جدا في أوساط المجتمع التركي مقارنة مع تأثير ساسة الحزب وقراراته ومواقفه على المستويين الداخلي والخارجي.
محمد طيفوري
* المقال منشور بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية»
www.minbaralhurriyya.org< p>