النايفات / وداعاً يا صديقي
1 يناير 1970
09:55 ص
| بقلم/ نايف بن مطيع |
التقيت به في لندن، في فبراير 2011. عندما كنت مرافقاً والدي في رحلة علاج، كان هو كذلك في رحلة علاج. لم أكن أعرفه من قبل، كان كبير السن. ومسامات الشعر قد فارقت ظهر كفيّه. فروة رأسه البيضاء تخفي تحتها تجارب وحكايات كثيرة**، من شدة نحافته، تستطيع رؤية العروق بالعين المجردة، في ذلك المساء. جلسنا وكنا مجموعة، كان محور الحديث انذاك، عن آخر الأحداث السياسية - الربيع العربي-. لم ينطق هو بحرف اتجاه كل ما نقوله، كان صامتا. وكأنه يقول: (لا شأن لي بذلك! (عندما يكبر المرء لا يهتم بكل ما يجري حوله، بقدر اهتمامه بنفسه). حينها كنت لا أغيب لحظه بالنظر إليه من باب الفضول - الفضول أحيانا طريق المعرفة-.وانتبه لي أحد الأصدقاء بهذا التصرف. وقال لي: ماذا بك؟ قلت: من هذا الرجل؟ قال: أيعقل انك لا تعرفه؟! هذا الشاعر عمعوم المحيلبي أبا خالد- من كبار شعراء قبيلة العوازم. كيف لا تعرفه وأنت مهتم بالأدب الشعبي؟! أعتذرت لتقصيري بذلك. ووجدتها فرصة لا يمكن أن اتخلى عنها. حينها توليت إدارة الحوار. ونقلته -بطريقة غير مباشرة- من السياسة إلى الأدب والشعر. حتى شاركنا الحديث. وتركت له إدارة الحوار امتعنا في تلك الليلة بحديثه. وسمعت منه من الشعر ما يكفي. كان أول أول لقاء يجمعنا. ومن خلاله أدركت بأن (الإنسان مهما فعل لن يجد السعادة الحقيقية إلا عندما يجد من يهتم باهتماماته). كان هو يتهم بالشعر والأدب. وتلك القصص التي لا تنتهي بالحكمة. كانت جلسته غنية ومفيدة بلا شك. ومن بعد ذلك. سألت أحد أبنائه. هل لوالدك ديوان شعري؟ هل تحتفظ بقصائده؟ هل يدوّنها؟ إجابني ومع الأسف- بالنفي. قال لي: لم نكتب أو نوثق له أي قصيدة. هو لا يريد. قلت في نفسي: يا لها من خسارة أدبية عظمى. خطر في بالي أن اجمع قصائده في ذلك الوقت. ولكن الوقت لم يسعفني بذلك. وفي لقائنا الثاني. كان الأصدقاء مجتمعين في منزله نظرا لكبر السن، وعدم قدرته على التواجد خارج المنزل لوقت متأخر-. ذهبت إليهم، وقبل دخولي إلى المنزل. وقفت أنظر إليهم من النافذة رأيته جالسا لوحدة. ولم يكن معهم في حديثهم هذا طبيعي-. الأصدقاء كان حديثهم يدور حول الهواتف الذكية ومميزاتها. وعن اخر التطبيقات -البرامج- وكل منهم بيده هاتفه. هو لا يعلم ما يقولون. أدوات عصره لا يمكن أن تتطابق مع أدوات هذا العصر. يصعب على كبار السن معرفة واستيعاب أشيائنا الكثيرة. ومن هذه الزاوية. تكون إحدى سلبيات التكنولوجيا. لم اتحمل رؤية هذا المشهد من النافذة. لم أتحمل أن أراه بائسا. دخلت عليهم. وعندما ألقيت السلام.أجابني بصوت مرتفع. فرح كثيراً بمجيئي. لعلمه بأنني أهتم لاهتماماته. جلست معه على إنفراد. في حين ما زالوا الأصدقاء يتناقشون ويتجادلون حول التطبيقات والهواتف. حديثنا كان هادئاً. حدثني عن أشياء كثيرة. كانت بمثابة دروس وعبر. قرأت عليه البعض من قصائدي لتلطيف الجو- وأذكر بأنه قال تعليقا على قصائدي -بالعامية- (هذا والله القصيد). اسعدني تعليقه للأمانة. ولن أنسى تلك القصيدة التي قاطعني بها. وقال لي: لا تكمل والدمع يملأ عيناه- هذه القصيدة مؤلمة جداً. وأعتذر بمقاطعته. هنا اليوم- اعترف بأنني أخطأت. كنت أريد تلطيف الجو وأخطأت بالاختيار. اسف أبا خالد. أعترف كذلك بأنني تأخرت بالأسف. لم يكن بوسعي أن أقولها في حينها حتى لا يتشعب الموضوع. جلستنا كانت لا تخلو من النصح. نصحني بأشياء\ كثيرة ومن أهمها اعتبرها وصية- قال: (لا تمدح شعرا من لا يستحق، المدح ردة فعل ). احاديثنا كثيرة. وتطورت العلاقة يوما بعد يوم. وذات يوم اتصل علي في وقت متأخر لم يكن كعادته، قال لي: أين أنت؟ قلت: في المنزل، وما هي إلا ثوان. ويطرق الباب. تفأجات بوجوده.قال لي: افتقدك هذا اليوم. وقلت يجب أن أراك وأتيت إليك. من خلال هذا الموقف أدركت بان (الصداقة الحقيقية لا تعترف بالعمر). الصداقة التي تجمع شابا عشرينياً برجل يتجاوز عمره السبعين. كانت خير مثال. ودامت صداقتنا ومضت بنا الأيام. حتى أنشغل كل منا في رحلته العلاجية. ومع ذلك لم تنقطع اتصالاتنا قط. حتى حان موعد رحلته والعودة إلى الكويت في مطلع ابريل. لم أستطع حينها أن اودعه قد يعود السبب بعدم قدرتي على الوداع. الوداع مؤلم. وقد يعود لارتباطي إلى وقت متأخر من الليل في المستشفى. الظروف منعتنا بطبيعة الحال. وعاد هو إلى الكويت. وعندما وصل. اتصلت عليه. لكي أطمئن بوصوله. تحمدت على سلامته. وخاطبني والعبرة تخنقه. ولم يتوقف في الدعاء لي. كان فرحا بعودته. افرحه الله-. ومن حينها. انشغل كل منا بحياته.حتى يوم السبت 16/ 3/ 2013... أوقفت أنفاسي رسالة تلقيتها من سليمان المنوخ يقول فيها... انتقل إلى رحمة الله تعالى.. عمعوم دغيم المحيلبي عن عمر يناهز 76 والدفن غدا بعد صلاة العصر بمقبرة صبحان.
عاد بي شريط الذاكرة إلى الوراء... إلى ما سبق ذكره. بأدق التفاصيل. واغلقت الرسالة واقول في نفسي... رحم الله أبا خالد رحمة واسعة واسأل الله أن يسكنه فسيح جناته. كان من خير الرجال الذين التقيت بهم في لندن. إلى جنان الخلد بمشيئة الله. وداعا.
(الفقيد والجانب الشعري)
عمعوم _رحمه الله_ كان شاعرا بالفطرة، لا تخلو قصائده من الحكمة، يمتاز بأسلوب السهل الممتنع، ويميل أحيانًا إلى القالب الفكاهي، عندما علمت بوفاته رحمه الله، بحثت عن قصائده، لدى أبنائه، أقاربه، الأخوة الشعراء، لعل وعسى أن أستطيع أن أوثق شيئاً من مخزونه الشعري، ولكن مع الأسف الشديد، رحل عمعوم رحمه الله ولم توثق له أي قصيدة، ومن المحزن أن يتوفى شاعر ولم توثق له أي قصيدة سواء صوتية أو مكتوبة، قد تكون القصائد في صدور الرجال، ولكن إلى متى؟ الرجال ذاهبون. أهمية التوثيق جعلتنا نقرأ لشعراء الجاهلية وصدر الإسلام، ومن هذا الجانب، أجريت بحثا في صدور الرجال، متسائلا من منكم يحفظ قصيدة للشاعر عمعوم المحليبي، واستطعت أن أجد بعض الأبيات هنا وهناك، ومن هنا إليكم بعض من جانبه الشعري، تقديرا منا للأدب، ووفاء منا للشعر.
أثناء الغزو العراقي على دولة الكويت، قال عمعوم المحيلبي مستذكرا وقوف المملكة العربية السعودية مع الشعب الكويت، حيث قال:
يا محمد الوقت مايدوم
أول لياليك واتلاها
العام ماهو بمثل اليوم
دنيا على الله مسوّاها
نرنا على الكافر الظلوم
عن وليته ما بغيناها
والله ما عندي جميع علوم
وميلات الأيام ما اقواها
شعبٍ تشتت بدون هدوم
ملابس اشتاه خلاها
نرنا لمزبن المظيوم
دار اخو نورة نصيناها
نشرب وناكل بلا تسلوم
يالله بالخير تجزاها
نسايل الشايب المرحوم
مزبنة كل من جاها
في أبيات اخرى، كان يشكي لأحد أصدقائه، حيث قال:
يا سالم امشي مع الدورات واغني
من شافني قال هذا فيه وسواسي
اروح بالواسطات ولا يسرني
اروح مرهي واعود طاون الياسي
ظنيت ي ابن مريشد واختلف ضني
عزي لمن صار عزه من ورا الناسي
ومن إحدى المساجلات الفكاهية التي جرت معه، كتب الشاعر سالم الحضينة لعمعوم هذه الأبيات والتي تحكي لنا عن ارتفاع أسعار المواشي آنذاك.
قال سالم الحضين
عمعوم ماعندك خروفٍ تبيعه
خروف هرفين بخمس وثلاثين
اتلا مرابيعه بخد الوديعه
تكفى يا ابو خالد ترانا محفين
أجاب عمعوم قائلا..
السوق يا سالم تغير مبيعه
هذاك سعر اليوم ماهوب هالحين
اللي يسوم بسومتك ما نطيعه
اليوم وصل السعر خمسه وخمسين
وفي أبيات أخرى لا تخلو من الطرافة يشكي لصديقه، معترفا بها بكبر السن قال عمعوم...
وعزتي عنك يا بن حميد
الكبر بيّن على ممشاك
انشهد انك غديت عويد
وانا بعد جاني اللي جاك
الكبر كد بيد الحديد
ماهوب علي انا وياك
نكتفي بهذه الأبيات لفقيدنا الشاعر عمعوم المحيلبي ونسأل الله تعالى أن يغفر له ويرحمه ويسكنه فسيح جناته.
Twitter:@Bnmte3