مشاهد / مرحلة الضياع... في حياة سيد قطب

1 يناير 1970 07:04 ص
| يوسف القعيد |

لا يكتفي الدكتور الطاهر أحمد مكي في دراسته لرسائل سيد قطب التي أرسلها من الولايات المتحدة الأميركية بالرسائل نفسها، ولا بصاحب** الرسائل، ولكنه يحاول قبل الوصول إلى الرسائل أن يرسم لنا المناخ السياسي والثقافي والفكري والاجتماعي العام الذي صاحب المرحلة. مع التركيز طبعا على سيد قطب وتطوره ومسيره ومصيره.

هذه الفترة من حياة سيد قطب- 1925، 1939- يمكن أن نطلق عليها مرحلة الضياع، فقد كان هذا الشاب الذي سيدخره القدر ليلعب أعظم دور إسلامي هذا رأي الدكتور الطاهر مكي وليس رأيي ويجيء في القمة مع كبار دعاة الإسلام ومفكريه في عصرنا الحديث،كان غارقافي تحصيله أيام الدراسة، وبعد تخرجه في المذاهب والتيارات الثقافية الأوروبية التي أخذت تتدفق على مصر مع الاحتلال والبعثات والترجمة، تقبل عليها صفوة المثقفين بحسن نية أحيانا، وفي غفلة أحيانا أخرى، ويدفعون إليها دفعا في أحايين كثيرة.

كان الإقبال على هذه الأفكار يبدأ إعجابا، ثم يتحول إلى إدمان مخدر وبعدها تبدو أوروبا وكأنها البقعة التي يجب أن يحج إليها المصريون، ونبع التقدم الذي يجب أن ينهلوا منه، وفي تلك الأيام كتب طه حسين مستقبل الثقافة في مصر، ورأى وطنه قطعة من حوض البحر الأبيض المتوسط ،عليه إذا أراد أن يتقدم، أن ينهل الثقافتين الإغريقية واللاتينية، وأن يدير ظهره لما عداهما.

وكان العقاد في آخر مراحل تمرده... تجاوز الشك الذي تجلى في قصيدته «الشيطان» ليتصل بالدراسات الإسلامية، بعد أن تجاوز نجاح الدكتور محمد حسين هيكل في كتابه «حياة محمد» ما كان متوقعا، وفتح أمامه أبوابا كانت مغلقة. وبداهة كان فهم العقاد للإسلام، وحتى إيمانه، عقَّاديا خالصا- إن صح التعبير- صنعه لنفسه وضمنه خلاصة فكره، وجاءت كتاباته الإسلامية وليدة هذه الفلسفة الخاصة.

وفي الجبهة المقابلة كان الإسلاميون لا يقلون تحمسا وليسوا أقل عنفا... يفهمون الأدب من خلال التراث، في ضوء منجزات العصر، لا يهملون الحاضر، ولكنهم يقيمونه على أسس من الماضي، وعلى رأسهم مصطفى صادق الرافعي، ومحمود محمد شاكر، وفيهم علي الطنطاوي وسعيد العريان، وآخرون.

كان الخلاف بين العقاد والرافعي قديما، ويعود إلى العام 1917 ويتصل بإعجاز القرآن الكريم، ويقول سعيد العريان: «كان بدء هذه المعركة... حديثا خاصا بين الرافعي والعقاد في دار المقتطف حول حقيقة إعجاز القرآن، وكتاب الرافعي عن «إعجاز القرآن»، وكان للعقاد فيهما رأي غير رأي الرافعي، فكانت غضبة الرافعي الأولى لكرامة القرآن، والعقاد ينكر، والثانية لكتابه «إعجاز القرآن» والعقاد ينتقده... فثمة سبب عام أنشأ هذه الخصومة هو إيمان الرافعي بإعجاز القرآن إيمانا لا يتناوله الشك... والرافعي يقول في كتابه «على السفود» إنها غضبة لله والقرآن».

اتخذ سيد قطب جانب العقاد من البداية، حتى أن الأستاذ محمود شاكر عاب عليه موقفه هذا، ويرى أن انتقاد سيد قطب لأدب الرافعي معناه مجانبة للدين والتقوى والحياء»، ورد سيد قطب على ناقديه، والمشككين في صدق إيمانه بأن الأدب والشعر كالفنون مترجمة عن النفس الإنسانية وأحاسيسها وآمالها، ولا دخل للدين فيها... لأنني أدرى من غيري بحقيقه الدين.

وخلال الحرب العالمية الثانية نشطت جماعة دار العلوم، وتوجت إنجازاتها المهنية بقرار أصدرته حكومة الوفد، وكان نجيب الهلالي يتولى فيها وزارة المعارف، وطه حسين منصب المستشار، يقضي باعتبار كل المدرسين العاملين في المدارس الحرة... بعقود شخصية وهم كثر. موظفون في وزارة المعارف، ومعارون لهذه المدارس، ويتقاضون رواتب وترقيات كبقية زملائهم، وكسرت الطوق الذي أقامه الاستعمار البريطاني وذيوله حول مدرسي اللغة العربية في مجال الترقيات، فأصبحوا كبقية زملائهم.

وفي المجال القومي ردت إلى اللغة العربية مكانتها في المدرسة المصرية، فزيدت ساعاتها، وبدأ تدريس التربية الدينية جديا، وعملت على ترقية المادتين كتابا ومنهجا... وهي أشياء لم تتحقق بسهولة، فبعض أعضاء الجماعة فصلوا، وآخرون اعتقلوا أو شردوا في نواحى قصية، ولكن روح النضال من أجل الاستقلال والعروبة والإسلام كانت في أوجِها.

ومن الواضح أن سيد قطب... كان عضوا في الجماعة، ومشاركا في كل نشاطها، كأي درعمي عادي، ولم يكن من النخبة القائدة، إذ كان الأدب والنقد يملآن عليه حياته، ويشغلان جل وقته.

وبعد الحرب العالمية الثانية تفجر الموقف في مصر، وكان الجديد الذي لم تعهده من قبل واضحا يتمثل في أمرين: أن التيارات الاجتماعية التي تكونت تحت الأرض خلال الحرب بدأت تظهر علانية، وتعبر عن نفسها صراحة، وبدأ عامة المثقفين المصريين يعرفون الأدب الروسي على نحو واسع، ويقرؤون جوركي، ويوشكين، وتشيخوف، في اللغات الأوروبية الأخرى، أو مترجما إلى اللغة العربية في بيروت غالبا، ويومها لمع جامعي شاب، وناقد أدبي مرموق، عائد من بعثته في فرنسا، ويكتب في لهجة لم تعرفها الحياة الأدبية من قبل، فهو يدعو إلى ربط الأدب بالحياة ويتحدث عن رسالة الفن الاجتماعية، وكان ذلك الشاب هو الدكتور محمد مندور، فأثار العقاد ورفاقه، وبدأت المعركة بين الفريقين، قوية وعنيفة وصاخبة.

وكان الأمر الثاني سياسيا بحتا... إذ ألقت الولايات المتحدة الأميركية بثقلها، كله في مصر، ترقب الأمر بعناية، وتعد نفسها لترث الاستعمار البريطاني- «في شكل جديد طبعا»- وفي تخطيط علمي دقيق وفعال لم تعرفه المنطقة من قبل، بدأت تهتم بالصحافة والمثقفين وكل العاملين في أجهزة الإعلام بأسلوب خفي وغير مباشر، وفي تلك الأعوام كما يقول محمد حسنين هيكل في كتابه: «بين السياسة والصحافة» صدرت جريدة أخبار اليوم غير بعيد من التخطيط الأميركي، وعنها صدرت مجلة المختار الأميركية فعلا.

وإذا بحثنا عن سيد قطب في تلك المرحلة نجده استقل عن العقاد، وأنشأ لنفسه مذهبا خاصا في النقد، وبدأ يتجه نحو الدراسات الإسلامية ذات الصبغة الأدبية، فأصدر في العام 1945 كتابيه: «التصوير الفني في القرآن» و«مشاهد القيامة في القرآن»، وتقدم بالأمر خطوة، فأصدر كتابه: «العدالة الاجتماعية في الإسلام» العام 1948، وأهداه إلى شباب «الإخوان المسلمون» دون أن يكون قد انضم إلى الجماعة بعد.

يمثل هذا الكتاب الأخير خطا فاصلا... وذا أهمية قصوى، في تحديد المرحلة الجديدة لسيد قطب، وجاء رد فعل للدراسات الاشتراكية والتقدمية التي بدأت تأخذ طريقها إلى الفكر المصري واضحة ومتميزة، ومع أنه تناول القضية من منظور ديني... فقد كان شيئا جديدا في هذا المجال، وهو في الكتاب أقرب إلى الاشتراكية منه إلى الرأسمالية، وكان ممكنا أن يتعمق تفكيره ويتطور في هذا الطريق، فهو طبقيا ينتمي إلى الناس الذين تحت وكان عباس العقاد هو الذي حال بينه وبين أن يأخذ هذا الاتجاه، فقد كان سيد قطب معجبا به منذ أن التحق بندوته العام 1927، ويحمل له إجلالا عميقا، حتى بعد أن انفصل عنه فكريا.

لقي كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام»... إقبالا وترحيبا، وكان من الكتب التي تركت تأثيرها واضحا في فكر الضباط الأحرار، ومن أوائل الكتب التي قرؤوها قبل أن تقوم الثورة نفسها، أو بالدقة العام 1951.

ويعترف الدكتور الطاهر مكي: «فقد طلب مني الكتاب صديق له قريب ضابط في الجيش، ثم عاد ورجاني أن أدله أين يباع فهو بحاجة إلى أكثر من نسخة، وكان هذا الضابط هو البكباشي إبراهيم عاطف، الذي انتخبه الضباط سكرتيرا لناديهم، مع محمد نجيب رئيسا، إبان تحديهم للقصر الملكي».