من عيون الشعر / الشعر يرفع بيوتاً...

1 يناير 1970 09:15 ص
| فهد حمود الحيص |

إذا كان العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها.. فقد قيل ان الشعر « يرفع من قدر الوضيع الجاهل، مثل ما يضع من قدر الشريف الكامل، وإنه أسنى مروءة الدني، وأدنى مروءة السري» ومن ههنا عظم الشعر، وتهيب أهله، خوفاً من بيت سائر تحدى به الإبل، أو لفظة شاردة يضرب بها المثل، ورجاء في مثل ذلك؛ فقد رفع كثيراً من الناس ما قيل فيهم من الشعر بعد الخمول والإطراح، حتى افتخروا بما كانوا يعيرون به ووضع جماعة من أهل السوابق والأقدار الشريفة حتى عيروا بما كانوا يفتخرون به. (العمدة في محاسن الشعر).

وممن رفعه الشعر عرابة الأوسي حينما قال الشماخ بن ضرار، وقد بذل له في سنة شديدة وسق بعير تمراً حتى صار ذلك مثلا :

رأيت عرابة الأوسي يسمو

إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمجد

تلقاها عرابة باليمين

وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة، يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة، وقد فرغ اللحم وبقي الرأس، وكان صبيّاً، فجعل يجره. فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنف الناقة. فلُقب به،

وكانوا يغضبون منه حتى قال فيهم الحُطيئة:

سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً

والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا

قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ

ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا

فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم.

فمن رفعه ما قيل فيه من الشعر بعد الخمول الملحق، وذلك أن الأعشى قدم مكة وتسامح الناس به، وكانت للمحلق امرأة عاقلة وقيل: بل أم فقالت له: إن الأعشى قدم، وهو رجل مفوه، مجدود في الشعر ما مدح أحداً إلا رفعه، ولا هجا أحداً إلا وضعه وأنت رجل كما علمت فقيراً خامل الذكر ذو بنات، وعندنا لقحة نعيش بها فلو سبقت الناس إليه فدعوته إلى الضيافة ونحرت له واحتلت لك فما تشتري به شراباً يتعاطاه، لرجوت لك حسن العاقبة، فسبق إليه المحلق، فأنزله ونحر له، ووجد المرأة قد خبزت خبزاً وأخرجت نحياً فيه سمن وجاءت بوطب لبن، فلما أكل الأعشى وأصحابه، وكان في عصابة قيسية، قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة، وأطعمه من أطايبها،

فلما جرى فيه الشراب وأخذت منه الكأس سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه، وذكر البنات، فقال الأعشى:

كفيت أمرهن، وأصبح بعكاظ ينشد قصيدته:

أرقت وما هذا السهاد المؤرق

وما بي من سقم وما بي معشق

ورأى المحلق اجتماع الناس، فوقف يستمع، وهو لا يدري أين يريد الأعشى بقوله، إلى أن سمع:

نفى الذم عن آل المحلق جفنة

كجابية الشيخ العراقي تفهق

ترى القوم فيها شارعين، وبينهم

مع القوم ولدان من النسل دردق

لعمري قد لاحت عيون كثيرة

إلى ضوء نار باليفاع تحرق

تشب لمقرورين يصطليانها

وبات على النار الندى والمحلق

رضيعي لبان ثدي أم تحالفا

بأسحم داج عوض لا نتفرق

ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه

كما زان متن الهندواني رونق

فما أتم القصيدة إلا والناس ينسلون إلى الملحق يهنئونه، والأشراف من كل قبيلة يتسابقون إليه جرياً يخطبون بناته؛ لمكان شعر الأعشى، فلم تمس منهن واحدة إلا في عصمة رجل فضل من أبيها ألف ضعف.



* كاتب ومهندس

[email protected]