صالح بشير / عن الدولة واقتصاد السوق وتنافيهما المفترض

1 يناير 1970 07:16 ص

هناك مصادرة يجري التسليم بها من دون مساءلة، كأنها من البداءة ومن تحصيل الحاصل، هي القائلة إن حرية السوق، التي ترتقي لدى دعاتها إلى مرتبة أم الحريات، ستجترح لا محال، وقد سادت وتعولمت على الصعيد الكوني، ما سبق لها أن حققته، في مبتدئها، على صعيد أوطان الغرب وأممه، أي أنها ستكون قابلة الديموقراطية وشرطها الضروري.

يفترض الرأي هذا، بل يجزم، أنه يكفي ترك حرية المبادرة تفعل فعلها «يدا خفيّة» في المجال الاقتصادي، حتى تنجرّ عنها سائر الحريات الأخرى، من سياسية وسواها. في ماضي الرأسمالية ما قد يشهد بذلك والحق يُقال، إذ لا ينفك نشوء الديموقراطيات الحديثة واشتداد عودها، واستتبابها نظامَ حكم عُدّ الأفضل في تاريخ البشرية، عن تطور الرأسمالية واقتصاد السوق، بحيث كاد يتماهى المواطنُ الفاعل اقتصاديا، ذاتا مستقلة مبادِرة، مع ذلك الفاعل سياسيا، ذاتا حرة، طالما أنه يُفترض في الاقتصاد الحر أن يوفر فرصة الحراك والصعود الاجتماعيين للجميع، أقله نظريا، فأنهى حالة الجمود الطبقي التي كانت سائدة في الماضي، ترتهن الفرد (الذي لا تكاد تصح عليه هذه الصفة) إلى شرط الولادة، لا فكاك منه ولا مناص، كل في طبقته لا يبرحها.

ذلك كله صحيح وليس محل خلاف جدّي. المشكلة إذاً ليست هنا، بل في النظرة الليبرالية المغالية التي أضحت سائدة، سيادة مطلقة تقريبا، والتي تضع السوق في مواجهة الدولة، وتفترض بينهما علاقة تنافٍ متبادل، أو عداء مستحكم، بحيث لا يمكن، وفق تلك النظرة، للدولة إلا أن تكون، لنزوعٍ فيها طبيعي ملازم، معرقلة للسوق حادّة من حريتها، ولا يمكن للسوق، بالمقابل وبالتالي، إلا أن تكون في حال صدام مع الدولة، فلا تزدهر إلا بانحسارها.

والحال أن التاريخ لا يؤيد هذه النظرة، بل هو قد يفندها وقد يفيد عكسها. ذلك أن تطور الرأسمالية وتمكّنها قد تزامنا مع اشتداد سلطة الدولة واستفحال نفوذها واستفادا من تلك السلطة ومن ذلك النفوذ. إذ من المعلوم، إلى درجة البداهة والابتذال، أن الدولة الحديثة بلغت من السيطرة على حيزها الترابي ما لم يسبق لنظيرتها التقليدية، ما قبل الحديثة، أن حققته أو حلمت بتحقيقه. فهي قد الغت كل سلطة لها موازية، وامتلكت من الوسائل، التقنية والإدارية، ما مكنها من التغلغل في كافة ثنايا المجتمع ومن توحيده حول سلطتها المركزية. تلك هي الدولة الأمة، وهذه من اختراع الحقبة الرأسمالية، لا شك في ذلك ولا مراء. وخلال تلك الفترة، سارت تلك الدولة يدا بيد مع السوق، فهي إذ أحكمت سيطرتها على التراب الوطني إنما اجترحت سوقا وطنية ووحدتها وتولت حمايتها، وسهرت على مصالحها في الداخل، بأن الغت كل ما من شأنه أن يعرقل تبادل البضائع، كما في الخارج، ان بالديبلوماسية وإن بالحرب. وهي إذ اضطلعت بدور لا يُنكر، وأحيانا حصري، في إقامة البنى التحتية، إنما أنشأت الوسائل الكفيلة بفرض مركزيتها، ولكنها في الآن نفسه خدمت اقتصاد السوق.

الدولة لم تكن إذاً هيئة مفارِقة للسوق معرقلة لها، على ما يقوله أو يوحي به غلاة دعاة السوق المعاصرين، أو هي ليست في تناقض معها أصلي وجوهري. بل إن الدولة، في صيغتها الغربية الحديثة، كانت إلى حد بعيد، دولة السوق، وإن عاندت هذه الأخيرة أحياناً في التفاصيل، بأن سعت إلى الاضطلاع بدور الناظم للحياة الاقتصادية، والاجتماعية تالياً، حفاظاً على التوازنات الأساسية للمجتمعات، وقد تم ذلك دوماً على نحو، جزئي أو آني، لا يخل بالقواميس المؤسسة لاقتصاد السوق، ولا ينال منها ناهيك عن إبطالها.

لذلك، فإن الخطاب الليبرالي المغالي، بإنكاره كل دور للدولة في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، يبدو في أفضل حالاته وتجلياته، استئنافاً لسجال لم يعد قائما أو لم تبق له من أسس موضوعية، يسحب على الدولة بإطلاق، ما كان يصحّ على دولة عينيّة، هي تلك التي كانت تجسيداً للتوتاليتارية، من شيوعية أو سواها، وكانت، بصفتها تلك تنطلق من رؤية أيديولوجية تجعلها تُقبل على الواقع فرضاً وقسراً، تزعم التحكم في مناحيه كلها وتوجيهها وفق مرجعية مفارِقة له، بما في ذلك الحياة الاقتصادية.

لم يبق راهناً من معترض على اقتصاد السوق، يدّعي فرض أو مجرد اقتراح نموذج بديل عنه، أو يتوهم اقتصاد الدولة منافسا له. مثل ذلك المنافس سقط منذ نهاية الحرب الباردة وانهيار الشيوعية، معسكراً وأيديولوجية، بل وبرهن على فشله قبل ذلك، وأضحى اقتصاد السوق «الباراديغم» الأوحد، تأخذ به حتى دول، شأن الصين، لا يزال يحكمها حزب شيوعي لم يتخل عن سطوته وانفراده، بل إن الدولة كانت، في ذلك البلد، المبادر والفاعل الرئيس في الانتقال إلى اقتصاد السوق. ربما تمثلت علة ذلك في أن الشيوعية تراجعت حتى أنها لم تنهر وظلت حاكمة مسيطرة، لأن النخب التي لا تزال تدين بها، اضطرت إلى الانتقال بها من التوتاليتارية، تُخضع الواقع في جميع مناحيه، بما فيه الحياة الاقتصادية، إلى رؤية تعتبرها صواباً مطلقاً، إلى مجرد أداة لتأبيد الاستبداد، أي إلى مجرد أداة تسلط وانفراد بالحكم، تنحصر وظيفتها في ذلك دون ادعاء إنتاج المعنى.

لكل ذلك، ربما لم يعد مجدياً وضع اقتصاد السوق مقابلاً نقيضاً للدولة بإطلاق، بل البحث في سبل التعايش بينهما، بما يمكّن الدولة من الاضطلاع بدورها الناظم في الحياة العامة، حكما بين قوى المجتمع ومكوّناته، على أساس الديموقراطية، خصوصاً حين تخفق «اليد الخفية» للسوق في استخلاص النظام من الفوضى، وهي كثيراً ما تفعل، على ما دلت تجربة الأعوام الأخيرة.


صالح بشير


كاتب تونسي، وهذا المقال برعاية «مصباح الحرية» www.misbahalhurriyya.org