جزيرة تاريخ الحضارات الطويل... احتضنت «دلمون» ولفتت أنظار الإسكندر
فيلكا... إلى خريطة التراث العالمي!
1 يناير 1970
01:59 م
| كتب نواف نايف ومحمد صباح |
منذ 2500 سنة آثرتْ أن تبتعد عن البر، باحثة عن الوحدة والتأمل، في رحلة لم تكن كأي رحلة. أنصفها الزمن فكتب في صفحات تاريخه اسمها بحروف من نور. **استقبلت قاصديها من كل جهة، ليمر عليها كل ما شهدته الانسانية من حضارات.
انها جزيرة فيلكا، تلك البقعة التي تسترخي بين أمواج بحر الخليج العربي، مبتعدة عن ضجيج الحياة الصاخبة. اختارت قدرها بين الأمواج، فكتبت ملحمة أرض عاصرت حضارات منذ القرن الثالث قبل الميلاد وحتى يومنا. سجلت اسم الكويت في خريطة العالم القديم، بينما تجد نفسها في العصر الحديث وكأنها تعيش خارج الزمن، بل أكثر من ذلك عندما تجد من يأتيها هاربا من عين القانون وخارجا عليه يريد أن يشوه هذا التاريخ بأفعال منافية للفطرة قبل أن تكون مخالفة للقانون.
فمنذ الغزو الصدامي الغاشم، تحول أنس فيلكا الى وحشة، وبعدما كانت عامرة بأهلها وبالحياة انقلبت الى أطلال وبقايا ديار، وكأن الزمان يعيد نفسه ليقف الشاعر على أطلالها مرددا قول امرئ القيس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ومنذ ذلك الوقت أصبحت فيلكا مهجورة ليس فيها الا أسراب النوارس تتحسر على مغنى من المغاني التاريخية التي تركت للاهمال والخراب. بل وأصبحت ملاذا لمن يريد ممارسة الأعمال الخارجة على القانون، فيما أهلها «الفيلكاوية» يحنون اليها ويستغلون كل فرصة ليعودوا الى رملها يدفعهم الحنين والشوق الى مراتع الصبا ومغاني الأهل والأجداد.
أما عن الاهمال الرسمي فحدث ولا حرج. طرحت لأن تكون منتجعا سياحيا اقليميا، فاصطدمت بروتين قاتل وغياب الارادة في التطبيق، غابت عنها الخدمات الأساسية فانبرى الأهالي لتخديم أنفسهم بأنفسهم. ولولا الحملات التطوعية التي حافظت على نظافة شاطئها لكان الوضع ازداد سوءا.
لكم ما زال هناك أمل. ألا يقول الشاعر «ما أضيق العيش لولا فسحة الامل؟».
فقد أعلن المندوب الدائم للكويت لدى منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو» السفير الدكتور علي الطراح عن تقديم ملف فيلكا رسميا الى لجنة التراث العالمي التابعة للمنظمة، لمتابعة اجراءات تسجيلها ضمن خريطة التراث العالمي. هي تستحق ذلك وأهل له.
«الراي»... هناك
عند المرسى حيث تحط «العبارة» التي تنقل يوميا عشاق الجزيرة والتي كانت «الراي» على متنها في جولة استطلاعية، استقبلتنا فيلكا برحابة المكان وما يحمله من ارث وصمود، وعطر الوجود، فهنا تموج نسمات الهواء النقي مداعبة سعف النخيل والاشجار، بقايا من الرحلة التي رسخت في التاريخ، وهنا حيث البيوت المهجورة بما تحمله من ذكريات، وسيرة عائلات غادرتها منذ زمن تاركة ابوابها واحجارها ونوافذها صورة تعبر عن حياة هنا، كانت هي الاجمل والاكثر هدوءا وانسجاما مع الطبيعة.
وهناك ايضا كانت وجوه العابرين منتشية تحاول رصد التفاصيل الصغيرة ومجالسة رمال الشاطئ والدخول في حالات تأمل واسترخاء، بعضهم يجلس شهورا بعيدا عن ضوضاء المدينة في البيوت القديمة.
وبين مشروع كتب له النجاح بعد ان اصبح وجهة الباحثين عن ايام جميلة في بيوت صممت على نسق تراثي وفق مواصفات المنازل الكويتية العتيقة، لا تزال فيلكا تنتظر المزيد من المشروعات لتحولها نموذجا ساحرا في عالم السياحة، فيما كان فريق الاستكشاف عن الآثار متابعا عن كثب واهتمام بالغ ما تخبئه الصخور والرمال والشواطئ من حكايا ربما صنعت في يوم قصة بطولة.
شتان بين ليل ونهار!
نهار فيلكا لا يشبه ليلها. فساعاته هذه الايام الربيعية تخلق في الروح عشقا أبديا لما تشكله أشعة الشمس المنسلة فوق الاشجار من لوحة حالمة تبعث في النفس كثيرا من البهجة والسرور والانسجام مع نسمات الهواء العليل. لكن مساء الجزيرة هو رحلة الهيام مع الصمت الساكن في جوف الأشياء المتناثرة بلا انتظام فيها، كما لو ان الروح تحلق فوقها بسمو وبهاء. وحين يرخي الظلام سدوله تطل المجاميع الخارجة عن القانون برؤوسها من هنا أو هناك لتعكير صفو الهدوء باقامة حفلات على الشواطئ تمتد حتى ساعات الفجر الاولى بعيدا عن الرقابة الامنية، لتستيقظ الجزيرة منهكة بعد ليلة صاخبة تلملم ما تبقى من زجاجات خمر فارغة وفضلات طعام.
احد العاملين في الجزيرة، رفض ذكر اسمه، حدثنا عن حفلات «الانس» التي تقام تحت جنح الظلام، مؤكدا ان جميع انواع الطقوس تمارس هنا في دهاليز الجزيرة من قبل الشباب المستهتر.
في القلب والعقل
وعلى وقع قول الشاعر:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
ما الحب الا للحبيب الأول
كم من منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزل
تعيش فيلكا في قلوب أهلها الذين أجبرهم الغزو الصدامي على هجرها. فهي في وجدان «الفيلكاوية» حالة عشق أبدية مع وطن عاشوا فيه سنوات طوالا وغادروه مرغمين، غير انهم اختاروا ان يكونوا زوارا لـ«الحبيب الأول» في كل فرصة واجازة او ربما لحظات اشتياق، ففي بعض بيوت فيلكا لاتزال الحياة تنبض فيها بعدما قرر عشاقها ترميمها لتحويلها الى صدر دافئ كلما زاد الحنين.
ولأنها دائما آمنة رغم ضجيج العبارات في لحظات متفرقة ومعانقة الموج لصخور الجزيرة، كانت النوارس تهيم عشقا فوق المياه الزرقاء النقية مرددة لحنا شجيا وكثيرا من الحب والدفء، متجاوزة بشغف اضطراب البحر، فبينما كان «أحمد» الهارب من زحمة العاصمة يجلس مفترشا رمال فيلكا الذهبية أخذ يرصد عن كثب اسراب النوارس وهي تموج محلقة على انخفاض، في تلك اللحظة كانت عيناه تتابعان سيمفونية العشق الفاتنة ليزيد جمال اللحظة تلك الطيور الهائمة على الاسماك الصغيرة ملتقطة رزقها بهدوء وتأن، حيث لا يد تطارها ولا طلقة صياد تفسد متعتها وعيشها الرغيد.
هي الرحلة الاكثر جمالا لمن قرر ان يكون صديقا لشواطئ فيلكا باحثا في تفاصيل الطبيعة الخلابة التي لا تجد لها ضيافة وسط حياة يومية مليئة بالرتابة والازعاج وهموم الحياة، ومثلما كان «احمد» مستكينا قبالة البحر وزرقته وصفائه، كانت الجزيرة في حالة صمت يبعث في الروح طمأنينة وسكينة لينفتح بابا كبيرا للتأمل ورؤية عظمة الخالق في خلقه.
وجهة سياحية
ربما كان مثارا للاهتمام ما قرره مجموعة من الشباب عندما اختاروا فيلكا وجهتهم الاولى والاخيرة في السياحة تاركين العالم بما يحمله من تطور سياحي لافت وراء ظهورهم، باعتبار ان الجزيرة من وجهة نظرهم المكان الاكثر بهاء في الدنيا.
ويقول احمد لـ«الراي» منذ سنوات طويلة وأنا آتي الى هنا بشكل دائم اذ لا تبعدني عنها سوى أيام العمل فقط حيث استغل كل اجازات السنة في المجيء الى هنا كونها هي قبلتي الاولى عندما تضيق علي الهموم بل هي صديقتي الدائمة وعشقي الاول والأخير.
ويضيف: اعرف هذا المكان جيدا بتفاصيلة الصغيرة وحكاياته وتاريخه الذي للاسف لم يلق كثيرا من الاهتمام. فهنا الف قصة سطرها الماضي والف حكاية ترويها تلك الصخور وتلك الرمال، وهنا اشتم عبق التاريخ واتخيل حوافر الخيل تغوص وسط هذه الاتربة كما لو انني ارصد تلك المحطة الخالدة عندما جاء الاسكندر المقدوني بأساطيله وجيشه متجاوزا المحيطات ليستقر هنا ثم يغادرها ليكمل ملحمته الاسطورية.
ويتابع «أحمد»: هنا ايضا أشعر بهيبة المكان لما يحمله من صولات وجولات كتبت بأسطر من نور في موروثنا الوطني، ويزيد تخيلا كيف تكون المتعة وانت في هذا العالم الهادئ وامام هذه النوارس الحالمة راسمة صورة من صور الجمال والهيام والعشق والصفاء، كما لو ان هذه اللحظات تغسل كل الهموم وتنقي النفس من مخلفات الايام الرتيبة وصراع الخير والشر، فهنا لا مكان للازعاج فقط الراحة والاستجمام.
ذكريات داعبت فكري
اما «ابو عبدالرحمن» الذي كسا رأسه الشيب فيقول: هنا طفولتي وهنا ترعرت وهنا لعبت وهنا ايضا درست، ملوحا بيده الى صفه في مدرسته والى الكرسي الذي كان يجلس عليه، يؤكد ان عشقه للجزيرة ابدي.
ويضيف: ذكريات جميلة اعيشها هنا في فيلكا وانا احضر بشكل دائم لاسترجع الذكريات واسرق الوقت للهروب من زحمة المدينة وضجيجها كي استمتع بهذه الاجواء، حيث جميع ذكرياتي اجدها هنا بين شبابيك المدرسة و«المطينة» التي كانت تمثل ينبوع الحياة بمائها المتدفق والعذب.
ويشير «ابو عبدالرحمن» الى ان الجزيرة ينقصها الكثير من الخدمات لاسيما شوارعها المتهالكة وغياب الخدمات.
واستذكر ابو عبدالرحمن لـ«الراي» حادثة طريفة حين يمر امام مدرسته حيث رمى معلمه «بالبرتقال» في صورة من شقاوة الطفولة، بعدها انتقل الى ربيع فيلكا في صحراء صغيرة على جانب الجزيرة حيث ينمو النوير وزهر البابونج ويقول: هنا احضر عائلتي واضع مخيمي في «القرينية» التي كانت في السابق مكاننا لنلهو به ومازال رائعا
حامد المطيري: 25 موقعًا أثريًا تحكي تاريخ حضارة دلمون ومقدونيا
قال رئيس قسم المسح والتنقيب الأثري حامد المطيري لـ«الراي» ان للجزيرة تاريخا طويلا من الحضارات التي اندثرت وبقيت آثار لها شواهد على تلك الحقب لتحكي لنا ذلك التاريخ الحافل لهذه الجزيرة، التي تضم بين جنباتها حتى الآن 45 موقعاً أثرياً تعود لحضارات مختلفة قد تجعل منها قبلة للباحثين عن أسرار التاريخ ومزارا بكرا للاطلاع على حياة الأمم السابقة.
وأضاف: نشأت على أرضها حضارة عرفت في منطقة الخليج العربي بحضارة دلمون، وفيها معبدان مهمان أحدهما كرس لاله المياه العذبة الاله أنزاك كما تضم أيضاً قلعة فريدة من حيث تصميمها العماري، شيدت في القرن الثالث قبل الميلاد وهي تحاكي التحصينات الهلنستية خلال تلك الفترة. مضيفا أنه بين القرنين السادس والسابع الميلادي جذبت الجزيرة بعض الجاليات العربية التي تدين بالمسيحية فشيدوا في وسطها كنيستين لا تزال أطلالهما شاخصة رغم مرور أكثر من 1400 عام على هجرهما. ولفت الى ان الموقع الجغرافي الوسط بين حضارات بلاد الرافدين وحضارات جنوب شبه الجزيرة العربية جعل من الجزيرة محطة لاستراحة القوافل والتزود بالمؤن، فهي تبعد عن البصرة مسيرة يوم للسفن ومسيرة يومين الى جزيرة البحرين، وبالتالي استغل سكان هذه الجزيرة هذه الميزة على مر العصور.
من صيد الرحلة
«ساكنة في قلوبنا»
كان لافتا في فيلكا غياب الخدمات، فلا وجود لما تتطلبه الحياة اليومية من اسواق.
واستغل عدد من الاهالي وجودنا فطالبوا المسؤولين بالالتفات الى الجزيرة التي لاتزال ساكنة في قلوبهم وتحسين اوضاعها من خلال تحسين الخدمات وترميم البيوت.
ترميم ذاتي... وسكن
لانها ايضا مدينة مهجورة بعيدا عن اهتمام الحكومة وعملها على ترميم الجزيرة واعادة رسم خارطة الخدمات فيها، اختار عدد غير قليل من المواطنين السكن في بعض المنازل بعد ترميمها وتزويدها بما تتطلبه من وسائل العيش، ضاربين بعرض الحائط القوانين معتبرين هذه البيوت منازلهم حتى اشعار آخر، باعتبار ان الحكومة تستحق من وجهة نظرهم ان تغيب بعدما تركت الجزيرة مهجورة فلا تخطيط استراتيجي لاستغلالها وجعلها معلما سياحيا فريدا في المنطقة كما كان يقال.
ترفيه بنكهة تراثية
تتعدد وسائل الترفيه في فيلكا، فالى جانب وجود القرية التراثية المبنية وفق نموذج تراثي قديم، هناك حمام سباحة يقصده السياح في فصل الصيف، بالاضافة الى العاب ترفيهية تحتضن الصغار في لحظات طويلة من المرح والسرور.
والى هذا كله ايضا يختار الحداقة شاطئ فيلكا نقطة انطلاق نحو بحرها لصيد السمك حيث الخير الوفير، فيما ينتظر الشباب فترة الصيف للسباحة في الماء النقي بعيدا عن الشوائب والمخلفات البيئية.
تنظيف تطوعي
رغم عدم الاهتمام الحكومي وغياب التنظيم، الا ان الشواطئ تبدو نظيفة بعدما نجحت حملات التنظيف التي تقوم بها الفرق التطوعية بين فترة وأخرى، حيث تجوب الجزيرة وانحاءها المختلفة لإزالة كل المخلفات والشوائب والعوالق البحرية تاركين المكان في أبهى حلة واجمل صورة.
آثار يونانية واغريقية
أهم مميزات الجزيرة احتواؤها على آثار يونانية واغريقية وأختام تعود الى ما قبل 2500 سنة، وتقوم أيضا بعثات التنقيب عن الآثار بمواصلة الليل مع النهار في التنقيب، اذ اكتشفوا اثار الاسكندر المقدوني وأحاطوها بسور حديدي لا يدخل اليه احد دون اذن.
فريق استكشافي أوروبي
خلال جولتنا في الجزيرة لفت نظرنا منزل من فوق تلة مرتفعة بني وفق النسق القديم للمنازل الكويتية، فتوجهنا اليه، وما أن بدأنا الاقتراب منه سمعنا أصواتا غير عربية الامر الذي أثار فضولنا أكثر، فتقدمنا الى مدخل المنزل لنجد فيه فريقا استكشافيا أوروبيا جاء ليجوب الجزيرة بحثا عن الآثار متابعا عن كثب واهتمام بالغ ما تخبئه الصخور والرمال والشواطئ، بحثا وتنقيبا عن تاريخ مضى بقيت آثاره شواهد على تلك الأمم ما يشير الى أنها مازالت مكمنا يحمل ارثا كبيرا ومكانا آمن به هؤلاء الباحثون عن أسرار التاريخ، الذين بدأت طلائع رحلاتهم الاستكشافية اليها منذ عام 1957، ومازالوا في بحثهم مستمرين آملين أن يكتشفوا سرا جديدا فيها لم يصل اليه أحد من قبلهم أو يكونوا دليل الجزيرة في الجلوس على خارطة المدن الأثرية في العالم.
لم نحاول قطع تركيزهم وانهماكهم في العمل التقطنا لهم بعض الصور واكملنا مسيرنا.
منتجع لأمراء الكويت
خلال تنقلنا ما بين 14 كم طولا و6.5 كم عرضا، هي مجمل مساحة الجزيرة، واجهنا الكثير من شواهد تلك الحضارات مرورا بحضارة دلمون التي امتدت على طول الساحل الشرقي للجزيرة العربية من فيلكا الى الحضارة المقدونية، التي مازالت آثار الفرق التي أرسلها الاسكندر المقدوني اليها باقية تروي قصة أحد أولئك العظماء الذين صنعوا مجدهم الدائم.
وفي تاريخنا المعاصر تبرز المواقع التراثية المعاصرة التي تزخر بها الجزيرة كاستراحة المغفور له الشيخ أحمد الجابر التي شيدت عام 1927 تقريبا، فوق تل سعد حيث كان المغفور له يقضي بعض أيام العطلة الصيفية فيها، في حين يقع على ساحلها الشرقي بيت المغفور له الشيخ عبدالله السالم الذي رممه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ويعد الآن معلماً ومتحفاً للزوار في الجزيرة اضافة الى بعض المساجد القديمة والأكشاك.< p>< p>