معالم «الشرق الأوسط الجديد»... في تقرير «كارنيغي» / الحلقة الأولى

1 يناير 1970 05:59 ص

الشرق حلم الباحثين الغربيين، فلياليه، في بعض آدابهم، سمر تحت أضواء النجوم ونهاراته حياة ممزوجة بالكد في برد الشتاء وقيظ الصيف، هذا هو الشرق القديم الذي حاول الساسة والكتاب الماضون توصيفه من بعيد. أما الجديد فلهيب لا يطفئه ماء واستعار لا يستكين إلى تهدئة، هكذا تبدو صراعاته التي لها بداية وليس لها نهاية.

يُقال إن أول من أطلق اسم «الشرق الأوسط» كان ضابط البحرية الأميركي ألفرد ماهان في بواكير القرن الماضي. هذا الاسم الذي نظّر فيه أخيراً الكثيرون من السياسيين والباحثين الذي حاولوا صياغة رؤية جديدة لخارطته التي تشكلت عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى (سايكس ـ بيكو). الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كانت له رؤيته للشرق الأوسط الجديد من منظور حل الصراع العربي - الإسرائيلي، أما الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش فرؤيته من منظور نشر الديموقراطية.

ولعل أكثر ما عزز الحديث عن ولادة الشرق الأوسط الجديد ما تحدثت به وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس إبان حرب يوليو 2006 بين إسرائيل و«حزب الله» عن أن المنطقة تشهد مخاض ولادة شرق أوسط جديد.

ورغم حديث رايس إلا أن وقف العمليات العدائية بعد القرار 1701، وضمور واشنطن عن نشر الديموقراطية في المنطقة، خوفاً من صعود الإسلاميين، أخمد الحديث عن خارطة الشرق الأوسط الجديد لدى صناع القرار. بيد أن ذلك لم يمنع أن يكون الشرق الأوسط الجديدة مادة يتناولها الدارسون في أرقى المراكز البحثية، خصوصاً أن جملة تحديات تفرضها أحداث المنطقة قد تعيد تشكيل خارطتها.

«الشرق الأوسط الجديد» آخر تقارير، أو دراسات، «مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي»، أعده مجموعة من كبار الباحثين، هم مارينا أوتاواي، ناثان ج. براون، عمرو حمزاوي، كريم سجدبور، وبول سالم.

التقرير يشير إلى أن الخطوة الأولى نحو صوغ سياسة جديدة في فهم حقائق الشرق الأوسط الجديد، تكمن في ملاحظة مجموعات، أو ساحات، الدول الثلاث المؤلفة من الساحة العراقية - الإيرانية، والساحة اللبنانية - السورية، والساحة الفلسطينية - الإسرائيلية، ومعها قضايا ثلاث حساسة ومتداخلة تتمثل بالانتشار النووي، المذهبية، وتحدي الإصلاح السياسي. وهذه الساحات والقضايا تحدد مجتمعة معالم الشرق الأوسط الجديد.

وإلى نص التقرير الذي سيُعرض على حلقات.


 


ريشة السياسات الأميركية العامل الأهم في رسم حدود المنطقة




في اعقاب 11 سبتمبر من العام 2001، اطلقت ادارة بوش سياسة طموحة لصوغ شرق اوسط جديد يشكل بسياق التدخل في العراق القوة الدافعة للتحول. فأعلن الرئيس بوش في 7 نوفمبر 2003: «ان انشاء عراق حر في قلب الشرق الاوسط من شأنه ان يكون حدثا مفصليا في الثورة الديموقراطية العالمية». وفي خطاب تلو آخر، اوضح مسؤولو الادارة الاميركية بما لا يترك مجالا للبس انهم لن يعتمدوا سياسة ترمي الى ادارة الازمات القائمة واحتوائها معربين بدلا من ذلك عن عزمهم القفز فوقها عبر اعادة صياغة المنطقة وانتصار الديموقراطية والسلام لتغدو الصراعات القديمة فاقدة الاهمية. ولقد تلخصت هذه الفكرة في تصريح أدلت به وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس ابان الحرب الاسرائيلية على لبنان بصيف العام 2006. فهي اشارت الى ان دفع اسرائيل الى القبول بوقف لاطلاق النار لن يساعد البتة لانه سيعيد ببساطة الوضع الى ما كان عليه ولن يشجع على انشاء شرق اوسط جديد. وكان من المفترض ان يغدو الشرق الاوسط الجديد منطقة تتألف بغالبيتها من دول ديموقراطية حليفة للولايات المتحدة، تخضع بها الانظمة غير المتعاونة لمزيج من العقوبات المباشرة والاضعاف غير المباشر من خلال تقديم الدعم لحركات المعارضة الديموقراطية. علما انه وفي حالات قصوى وبالتوازي مع ما حدث بالعراق، لم تستبعد ادارة بوش الاستخدام المباشر للقوة لسلب الانظمة المناوئة مقاليد السلطة.

ولا ريب في ان الشرق الاوسط في العام 2008 يختلف بشدة عما كانت عليه الحال في العام 2001، وان الحرب في العراق شكلت القوة الدافعة الابرز لهذا التحول رغم انها لم تكن البتة القوة الوحيدة. بيد ان حصيلة التغير ليست مطلقا النتيجة التي توختها الادارة الاميركية، بل على العكس فالوضع قد ازداد سوءا في اكثر من بلد. ورغم وجود قوات اميركية يفوق عديدها 160 الف عسكري في العراق في نهاية العام 2007 ورغم تحسن في الوضع الامني، فان العراق يبقى بلدا يعيث فيه عدم الاستقرار والعنف والانقسام فسادا، ودولة فاشلة بكل ما في الكلمة من معنى. وكما نبهت الادارة الاميركية مرارا وتكرارا فان التقدم يقوض بنيانه رفض الفصائل السياسية العراقية الانخراط في عملية مصالحة جدية. علاوة على ذلك، ادى انهيار مؤسسات الدولة العراقية في اعقاب سقوط نظام صدام حسين الى كسر ميزان القوى بين ايران والعراق، فزاد نفوذ طهران في الخليج وما بعده. وفي هذه الاثناء، تستمر ايران في برنامجها لتخصيب اليورانيوم ضاربة عرض الحائط بقرارت مجلس الامن الدولي وغير آبهة بتهديدات الولايات المتحدة بعملية عسكرية ضدها.

من جهته، يبقى الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي بلا حل، غير ان حدوده تغيرت تغيرا ملحوظا مع شرخ عميق في الصفوف الفلسطينية وآثار عقود طوال من اعمال عسكرية اسرائيلية احادية الجانب من شأنها التشكيك في مدى امكانية تطبيق حل الدولتين. ورغم ان لبنان تخلص الى حد كبير من السيطرة السورية المباشرة، فانه يظل منقسما على ذاته ويتأرجح على شفا هاوية الصراع الداخلي. ومع ان اوراق سورية قد ضعفت من جراء سحب قواتها قسرا من لبنان، الا انها ما انفكت تتمتع بقدرة كبيرة على الاسهام في ادارة الشأن الداخلي او تعويقه. وليس خطر الانتشار النووي بالمحصور بايران، فمن المغرب الى الخليج يعرب عدد متزايد من الدول العربية عن الرغبة في تطوير قدرة نووية تبقى، وان طورت لاغراض سلمية محضة، قدرة نووية. اما الانقسامات المذهبية والاثنية فحدث ولا حرج عن تعاظم اهميتها في المشرق العربي والخليج.

على صعيد اخر، لم يشهد الشرق الاوسط ثورة ديموقراطية ناجحة خلال الاعوام الماضية. وبدلا من ذلك، رتب الانفتاح الديموقراطي الذي دعت اليه الولايات المتحدة ودعمته جزئيا حتى نهايات عام 2005 اما تعميق الانقسامات المذهبية والمجتمعية واما الى كشف النقاب عن شعبية وقوة الحركات الاسلامية في مقابل ضعف شديد للتيارات الليبرالية، فكان ذلك سببا من بين اسباب عدة حدت بالولايات المتحدة الى التراجع عن الترويج للديموقراطية. وفي التحليل الاخير فشلت الولايات المتحدة في القفز فوق المشاكل القديمة وتلفي نفسها اليوم في مواجهة غالبية تلك المشاكل، وفي معظم الاحيان بطريقة اشد، مضافا اليها مشاكل أخرى جديدة.

وبلا ريب لم تنشئ السياسات الاميركية وحدها هذا الشرق الاوسط الجديد المضطرب، فالاطراف الاقليمية الفاعلة، دول وحركات غير دولانية، رسمت وما فتئت ترسم معالم واقعه المتغير. بيد ان ريشة السياسات الاميركية شكلت العامل الاهم في رسم معالمه. فقد تميزت السياسات الاميركية تجاه الشرق الاوسط بمركزية نسق المواجهة، بما في ذلك استخدام القوة العسكرية او على الاقل التهديد باستخدامها عبر «ضربات احترازية» كما ورد حرفيا في استراتيجية الامن القومي في سبتمبر 2002. ولقد استخدمت الولايات المتحدة القوة العسكرية في افغانستان والعراق وفي غير ميدان من ميادين الحرب على الارهاب، وكذلك اعتمدت ايضا على اشكال اخرى من الاكراه عبر دعوتها الى اعتماد مجلس الامن قرارات تدين وتعاقب سورية وايران وعبر فرض عقوبات احادية الجانب على غرار تلك المفروضة على حركة «حماس» وعلى الحرس الثوري في ايران. ورغم ان الديبلوماسية حلت احيانا ضيفة على السياسة الاميركية كما اظهر الحل الناجح للصراع مع ليبيا على قضيتي الارهاب واسلحة الدمار الشامل في العام 2003، فان المواجهة بقيت النسق المهيمن على مقاربة الادارة الاميركية للشرق الاوسط، بل وانعكست ايضا على مواقف وقرارات الكونغرس طوال هذه الفترة.

وللموضوعية، ينبغي القول ان الاراء لطالما تباينت داخل الادارة الاميركية، فابان ولاية الرئيس بوش الاولى، كان وزير الخارجية كولن باول يمثل مقاربة اكثر تقليدية وحذرا وتعويلا على الاداة الديبلوماسية ازاد الشرق الاوسط غير ان اراءه لم تلق قط اذانا صاغية واعيد ادخال عنصر من عناصر الديبلوماسية مطلع 2007، في وقت واجهت فيه الادارة استمرار دوامة عنف في العراق وفشل الجهود الرامية  الى اقناع ايران بالتخلي عن مساعيها لتطوير قدرة نووية، ورفض كبار الحلفاء على غرار السعودية ومصر التعاون في اي مبادرة اميركية اقليمية الا بشرط اعادة احياء عميلة السلام الفلسطينية - الاسرائيلية. وبعد رفضها رفضا قاطعا لتوصيات «مجموعة دراسة الوضع العراقي» المستقلة الصادرة اواخر العام 2006 والقائلة بضرورة شروع الولايات المتحدة في حوار مع جيران العراق ومن بينهم ايران وسورية، عادت ادارة بوش وبدأت حوارا من هذا النوع مع كلتا الدولتين في 2007. فالتقى السفيران الايراني والاميركي في العراق مرات ثلاث في بغداد في ذلك العام، وجمع وزيرة الخارجية بنظيرها السوري وليد المعلم لقاء قصير على هامش مؤتمر دولي عن اعادة اعمار العراق في شرم الشيخ في مايو 2007. وفي نوفمبر، وبعد الكثير من التردد، تمت دعوة سورية للمشاركة في اجتماع عقد في انابولس لاعادة اطلاق عملية السلام في الشرق الاوسط.

بيد ان ايا من هذه الومضات الديبلوماسية لم يغير في نبرة السياسة الاميركية الرامية للمواجهة. ولم تحل الاجتماعات المعقودة على مستوى السفراء بين الولايات المتحدة وايران من دون اسهاب الرئيس بوش ونائبه تشيني في الحديث عما ينبع من ايران من تهديد بحرب نووية مدمرة وحرب عالمية ثالثة. كذلك، دفعت تقديرات الاستخبارات الاميركية الصادرة في ديسمبر 2007 والتي خلصت الى ان ايران علقت برنامجها النووي في العام 2003، البيت الابيض الى المسارعة الى الاعلان ان ايران ستستمر في رفض التعاون بشكل كلي مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومازالت ضالعة في تخصيب اليورانيوم خلافا لقرارات الامم المتحدة ورغم ان المحللين اجمعوا على ان ما خلصت اليه تقديرات الاستخبارات القومية من شأنه ان يمنع بشكل فعال استخدام الولايات المتحدة للقوة العسكرية ضد ايران، فان البيت الابيض تعمد الاصرار على ان الخيار لا يزال مطروحا. كذلك، دعت الادارة سورية الى انابولس بيد انها رفضت الموافقة على ادراج قضية الجولان بندا على اجندة المؤتمر ولم تتوان عن الاعراب عن معارضتها لامكانية حصول مفاوضات سورية - اسرائيلية على هذه المسألة.

وتواجه الولايات المتحدة في الشرق الاوسط الجديد تحديات مركزية ترتبط بمجموعات ثلاث من الدول وقضايا ثلاث قطاعية تأثرت جميعها سلبا بالسياسات الاميركية في الاعوام الاخيرة القليلة. وفي حين يشكل تطور الاوضاع في ايران والعراق تهديدا كبيرا يحدق بأمن ومصالح الولايات المتحدة، اضحت لبنان ومعها سورية بمثابة ساحة منزوعة الاستقرار على نحو يؤثر في دول الجوار والسياق الاقليمي الاوسع. من جهته، استحال الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي من مشكلة مزمنة الى عائق كبير يعرقل تعاون الولايات المتحدة مع الانظمة الصديقة لها في المنطقة. وليست المجموعات او الساحات الثلاث بالمنفصلة تماما عن بعضها البعض، بيد انه من المستحسن لاغراض التحليل الموضوعي النظر في كل على حدة. ويواجه صناع السياسة الاميركية ايضا سلسلة من المشاكل القطاعية التي تطال المنطقة بأسرها، اولها تحدي الانتشار النووي الذي يبلغ ذروة خطورته مع ايران لكنه لا يقف عندها، وثانيها المعضلة التي طرحتها امام الولايات المتحدة صراعات سياسية داخلية في دول عدة حفزتها الولايات المتحدة في البداية كجزء من برنامج تحولات ديموقراطية لكنها تراجعت عنها لاحقا ما ادى الى تقويض المصداقية الاميركية وطرح اسئلة مشروعة عن نواياها الحقيقية، واخيرا تنامي الصراعات المذهبية.


حقائق الشرق الاوسط الجديد

تكمن الخطوة الاولى نحو صوغ سياسة جديدة في فهم حقائق الشرق الاوسط الجديد كما هي الان. فمجموعات الدول الثلاث المؤلفة من الساحة العراقية - الايرانية، والساحة اللبنانية - السورية والساحة الفلسطينية - الاسرائيلية ومعها قضايا ثلاث حساسة ومتداخلة تتمثل بالانتشار النووي والمذهبية وتحدي الاصلاح السياسي تحدد مجتمعة معالم الشرق الاوسط الجديد.

وليست هذه المشاكل طبعا بالمشاكل الوحيدة التي ستضطر الولايات المتحدة الى التعامل معها خلال الاعوام المقبلة في الشرق الاوسط. فمصر، على سبيل المثال، ستمر بما لا يقبل الشك تقريبا بازمة خلافة ربما رتبت توترات مجتمعية ودفعت نحو اعادة صياغة العلاقة بين المؤسسات الامنية والسلطات المدنية. وسيتعين على دول الخليج التأقلم مع الغياب المتزايد للتوازن بين الانظمة السياسية الخاملة والمجتمعات والانظمة الاقتصادية المتغيرة بسرعة. ومن المشاكل الاخرى التي من شأنها التأثير في المنطقة تفشي النمو السكاني في العديد من الدول وعدم قدرة اقتصادياتها عل استيعاب قوة عاملة متوافرة بكثرة وفي كثير من الاحيان غير مؤهلة علميا. غير ان هذه المشاكل اما خاصة بدول بعينها واما قديمة مزمنة لا تستدعي اعادة التفكير في السياسة الاميركية.

وتجدر الاشارة هنا الى اننا لم ندرج مشكلة الارهاب على هذه اللائحة لاسباب عدة، رغم ان الارهاب ما فتئ جزءا لا يتجزأ من الشرق الاوسط الجديد كما القديم. اولا، ليس الارهاب بمشكلة منفصلة تمكن معالجتها عبر حرب ما، بل هو مشكلة لا يمكن حلها الا عبر تضافر السياسات الاميركية كلها في المنطقة. وليس الارهاب الموجه ضد الولايات المتحدة ظاهرة احدثتها كراهية عمياء لا شرح لها ازاء الولايات المتحدة،، بل هو رد مؤسف وحتما غير مقبول على الدور الذي ادته الولايات المتحدة في الشرق الاوسط طوال عقود خلت من الزمن. وهكذا، لا يمكن للحد من الارهاب ان يكون سياسة منفصلة، معزولة عن جميع السياسات الاخرى. والحق ان الولايات المتحدة ستستمر في تعقب الشبكات الارهابية وتفكيكها وستستمر في العمل مع دول اخرى في المنطقة بغية تحسين معلوماتها الاستخباراتية عن المنظمات الارهابية، لانه ما من سياسة يمكن لاختيارها من دون غيرها حلا لمشاكل المنطقة ويمكن ان تؤدي الى اختفاء الشبكات الارهابية بين ليلة وضحاها. لكن من جهة اخرى لا يمكن لمساع استخباراتية او امنية او عسكرية تبذل ان تحل مشكلة الارهاب بمعزل عن مجمل السياسات الاخرى التي تتبعها الولايات المتحدة. بل ان من شأن اعتماد سياسة تركز على الارهاب فقط، بدلا من النظر في منظومة العلاقات التي ترتبط الولايات المتحدة بالشرق الاوسط المساهمة في خطر تفاقم مشكلة الارهاب بدلا من حلها.


الساحة العراقية - الإيرانية

من الحجج التي استخدمتها ادارة بوش في تبرير حربها على العراق وجود محور شر يهدد المصالح الاميركية ويعبر بطريقة غريبة وعوجاء عبر العراق وايران وكوريا الشمالية.

واقل ما يقال عن مقولة محور الشر انها لم تتسم بالدقة فانى لبلدين تجمعهما عداوة شديدة كإيران والعراق ان يشكلا محورا تكون كوريا الشمالية جزءا منه وهي التي ليست اصلا جزءا من المشهد السياسي في الشرق الاوسط؟ واليوم بات العراق تربطه بايران علاقة اكثر تعقيدا مما كانت عليه الحال في 2002، بيد ان الدفع بوجود محور عراقي- ايراني مازال غير دقيق. فمشاكل عراق بعد صدام وحلولها المحتملة متصلة بايران اتصالا وثيقا على النحو الذي غدا معه مستحيلا مناقشة اي حلول للمشاكل العراقية من دون اخذ ما ستقوم به ايران بعين الاعتبار. وسياسيا، صار العراق وايران يشكلان ساحة متصلة تواجه بها الولايات المتحدة حقائق يصعب تغييرها، بعضها نتائج مباشرة للسياسات الاميركية، او بشكل ادق النتائج غير المتوقعة وغير المرغوب بها لتلك السياسات، وبعضها الاخر نجم عن تفاعلات عوامل ومؤثرات داخلية واقليمية. الا ان الامر الذي لا شك به هو ان السعي إلى التمييز بين ما هو ناتج عن السياسة الاميركية وعما هو ناجم عن غيرها عمل لاطائل منه، فمهما كانت الاسباب هذه هي الحقائق التي يتعين على السياسة الاميركية التعاطي معها في المستقبل.


العراق

تتمثل الحقيقة المركزية بالعراق في انه اليوم دولة فاشلة، فالاجتياح الاميركي اطلق العنان لصراع على السلطة سيتطلب انتهاؤه اعواما عدة وهو يحول فعليا دون قيام دولة قوية.

وتبدو علامات فشل الدولة جلية، فالعراق ما لبث يعجز عن احتواء العنف بمفرده. وقد كان عاجزا عن القيام بذلك حتى منتصف العام 2007 رغم وجود قوات اميركية يصل عديدها إلى 140 الف عسكري، ونجحت الزيادة الكبيرة لعديد القوات بثلاثين الف عسكري في تخفيف العنف نسبيا وان ظلت مستوياته الراهنة بالغة الارتفاع. كما ان العراق مازال عاجزا عن الوفاء بالاعمال الادارية الرئيسية للدولة، فالميزانيات لم تنفق غالبية اموالها، واعادة الاعمار بطيئة والخدمات لايجري تقديمها. وتسيطر مجموعات مختلفة على معظم المدن والبلدات في حين يغيب عنها بشكل كامل تقريبا الولاء للحكومة المركزية. فالميليشيات الشيعية والميليشيات السنية و«مجالس الصحوة» السنية والتنظيمات العشائرية تتناحر في ما بينها وتسيطر على البلدات والقرى والاحياء احيانا بالتعاون مع الولايات المتحدة وقوات الامن العراقية واحيانا اخرى بالمعارضة لهما اوببساطة بمفردها. وتتنافس المؤسسات الحكومية الرسمية مع بنى غير رسمية تطورت في فراغ السلطة تبدو اقوى واكثر نفوذا من الاولى، وتلك جميعا ارهاصات رئيسية لانهيار الدولة.

اما الحقيقة الثانية فهي ان انهيار الدول دائما ما تصعب مواجهته او الحيلولة دون استمراره. ورغم تنوع الصيغ الممارسة عالميا لاعادة الاعمار في اعقاب الصراعات والمحاولات الدولية العديدة لجمع اشلاء الدول المنهارة فان عدد الحالات الناجحة غير مشجع. فالتدخل الخارجي قد يؤدي احيانا إلى اخماد فتيل العنف على غرار ما نجح في فعله في دول صغيرة اخرها البوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وسيراليون، بيد ان التدخل الخارجي قد فشل حتى الساعة في وضع حد للعنف في الدول الكبيرة على غرار افغانستان وجمهورية الكونغو الديموقراطية والصومال وبالتأكيد العراق. ويعزى ذلك إلى حد كبير إلى ان حجم قوة التدخل اللازم لفرض النظام في مثل هذه الدول مهول ويفوق حجم ماتستطيع الجماعة الدولية او دول بمفردها ان تسهم به خصوصا في ظل الاعتماد المتصاعد على التكنولوجيا بدلا من القوة البشرية. وقد اثبتت التجارب ان ايجاد وضع سياسي من شأنه جعل الدولة المعنية قابلة للحياة من دون التدخل الخارجي لهو امر غاية في الصعوبة حتى في الدول الصغيرة. ويعود ذلك في المقام الاول إلى عدم امكانية فرض الحلول السياسية التوافقية من الخارج او بارادة دولية فقط، فتلك اما تعتمد على توافقات داخلية تبرمها المجموعات المتنافسة في مابينها او على نصر ساحق تحققه احدى الفصائل المتناحرة. ويمكن القول ان التحول الناجح من دولة فاشلة إلى دولة قادرة على البقاء والعمل بمفردها يمثل مهمة عجز التدخل الخارجي حتى اليوم عن تحقيقها.

اما الحقيقة الثالثة فتكمن في اخفاق العراقيين حتى الان ومثلهم في ذلك الولايات المتحدة في اعداد خطة واضحة وعملية لكيفية اخراج البلاد من حالة الانهيار الراهنة. وفي حين ساهم رفع عديد القوات الاميركية الذي نفذته الولايات المتحدة ابان العام 2007 في تخفيض مستوى العنف، فانه لم يترافق مع احراز تقدم حقيقي على الصعيد السياسي. وما برحت الشخصيات والقوى السياسية العراقية تتنافس في مابينها، وغالبا ما يتعذر فهم رؤيتها.

لمستقبل العراق بصورة واضحة، بل ان اللحظات القليلة التي بدت بها تلك الرؤية واضحة لم يحل ذلك دون استمرار تفاوت كبير بين الرؤية والاعمال الدائرة على الارض.