ضوء / فن الخط العربي بين الواقع والطموح (1)

1 يناير 1970 06:01 م
| بقلم: علي البداح |

لابد لنا قبل أن نتحدث عن واقع فن الخط العربي أن نعود إلى ما يزيد على 1400 عام مضت لنتوقف وبشكل سريع في محطات عبر تاريخ حضارتنا العربية والإسلامية نتلمس، من خلالها مكانة فن الخط العربي في عواصم وحواضر مختلفة** من أصقاع عالمنا العربي والإسلامي ونرصد حاله في ذلك الزمان إلى أن نصل إلى عالمنا اليوم.

ولنبدأ هذه المسيرة مع المعلم الأول أشرف خلق الله نبينا المصطفى عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأزكى السلام، والذي بُعث بالرسالة السمحة فبدأت معها الكتابة تزدهر وتنتشر لحث الإسلام الشديد على تعلم الكتابة، وذلك واضح في العديد من الآيات والأحاديث النبوية الشريفة والحوادث التي تذكرها كتب السيرة وأشهرها حادثة أسرى بدر التي جعل فيها رسولنا الكريم عليه وعلى آله وصحبه الصلاة والسلام فداء أسرى بدر من المشركين أن يعلم كل واحد منهم القراءة والكتابة لـ 10 من صبية المسلمين.

كذلك فقد اتخذ الرسول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم لنفسه بضعة كُتّاب يكتبون الوحي ورسائله وعهوده منهم : أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان وزيد بن ثابت وغيرهم رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

ولعل تدوين القرآن الكريم الذي كان ينزل به الوحي على الرسول الكريم- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- هو من أبرز الأحداث في مسيرة فن الخط العربي، بل لعل جمعه في مرحلته الثانية في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه بين دفتي مصحف هو البداية الحقيقية لظهور فن جديد لم يُعهد له مثيل في الأمم السابقه ألا وهو فن الخط العربي.

لقد كان تجويد كتابة القرآن الكريم مظهراً من مظاهر تكريمه وكان خط المصاحف ضرباً من ضروب التقوى والتقرب إلى الله إذ لم يكن الخطاط يفعل ذلك ممارسة لشروط المهنة كما كان يفعل النسّاخ والكاتب والمحرر والورّاق بل كان يفعله التماساً للمثوبة التي أعتقد أنها تتضاعف كلما حَسّن خطه وأبدع فيه، ففن الخط العربي هو وليد الإسلام والثمرة اليانعة لمرحلة التدوين القرآني وليس مصادفة ألا يكون لنا فن في الخط قبل القرآن وإنما كانت لنا كتابة فمع القرآن وُلد الخط العربي وبالقرآن بدأ، ومنذ نزول الوحي اعتبر الخط المكيّ مفضلاً لكتابة كلام الله تعالى، ولما كُتبت المصاحف في زمن عثمان رضى الله عنه كُتبت بالخط المكي وأرسلت إلى الأمصار فكانت تلك نقطة انطلاق الكتابة العربية وانتشار وتطور فن الخط العربي.

ولننتقل سريعاً إلى محطة أخرى لنصل إلى عهد المأمون في عصر الخلافة العباسية، ذلك العصر الذي ظهر فيه مهندس الخط العربي أبا علي محمد بن مقلة وتلميذيه علي بن هلال بن البواب وياقوت المستعصمي. سنقف مع المأمون الذي أنشأ دار الحكمة واعتنى بفنون الكتاب من خط وزخرفة وتجليد فكان يجمع الفنانين في هذه الفنون ويجزل لهم العطايا والمِنح لكي يبدعوا في كتابة الكتب وخطها، ولعل حادثته التي تذكرها المصادر مع اليهودي هي خير دليل، فعندما سمع المأمون عن حسن خط ذلك اليهودي دعاه وأغراه بالعطايا ليعمل عنده فرفض اليهودي وذهب حيناً من الزمن ثم أتى بعدها وطلب مقابلة المأمون وسأله ما إذا كان عرضه السابق لا يزال قائماً؟ فرد عليه المأمون بالإيجاب فقال الخطاط اليهودي: أنا مستعد للعمل لديك الآن؟ فسأله المأمون : لماذا رفضت في البداية وقبلت الآن؟ فكان رد اليهودي : بأنه قد عز على نفسي أن أعمل وأنا يهودي عند خليفة مسلم لأخدم كُتب المسلمين لذا قد ذهبت وبدأت في كتابة التوراة بأجمل خط، وأنا أكتبها أضفت عليها ما أضفت ونزعت منها ما نزعت حتى إذا ما انتهيت ذهبت بها إلى أحبار اليهود فشكروني عليها وأبقوها عندهم فعلمت بأن التوراة محرّفة، فجلست أكتب الإنجيل بأجمل خط وأنا أكتبه أضفت عليه ما أضفت ونزعت منه ما نزعت حتى إذا ما انتهيت ذهبت بهذه النسخة الى قساوسة النصارى فعملوا لي احتفالاً كبيراً وأعطوني الهدايا وأبقوا النسخة عندهم في الكنيسة فعلمت بأن الإنجيل مُحرفاً. فجلست أكتب القرآن وأنا أكتبه أضفت عليه ما أضفت ونزعت منه ما نزعت حتى إذا انتهيت ذهبت به إلى علماء المسلمين فقالوا لي : نراجعه ونرد عليك فلما رجعت إليهم قالوا لي: هذا ليس بقرآن وحرقوه... فعلمت بأن القرآن محفوظ فأسلمت وجئت لأعمل عندك وأنا مسلم.

والشواهد من هذه القصة كثيرة لعل من أهمها مدى حرص الخلفاء والحكام في ذلك الزمن الجميل على فن الخط العربي وتشجيع فنانيه والخليفة المأمون مثال جيد على ذلك فهو صاحب المقولة الشهيرة: «لو فاخرنا الملوك الأعاجم بأمثالها لفاخرناهم بما لنا من أنواع الخط، يُقُرأ في كل مكان ويُترجم لكل لسان ويوجد مع كل زمان. كذلك من الشواهد المُستقاة من هذه الحادثة مدى أهمية فن الخط العربي ودوره المهم في الحفاظ على القرآن الكريم واللغة العربية.

ولننتقل إلى محطة آخرى لنتوقف عند هرات وبلاد فارس حيث شهد فن الخط العربي في شرق العالم الإسلامي اهتماماً كبيراً وكانت هرات إحدى المدن التي أصبحت مركزا للعالم الإسلامي في فنون الكتاب على أيام حُكم بايسنقر بهادر خان (823هـ/ 1420م 837هـ/ 1433م)، فقد كان ذلك الحاكم المرهف الحس شغوفاً هو الآخر بفن الخط العربي، فكان يرعى الخطاطين والمذهبين والمجلدين. والحقيقة أن هذه الرعاية والعناية بالفنانين بدأت عند التيموريين بعد استيلاء جدّه تيمورلنك على بغداد عام 975هـ / 1393م ونقله للفنانين منها إلى سمرقند إلا ان فنون الكتاب بلغت ذروتها في هرات على أيام بايسنقر. أما غياث الدين بايسنقر ميرزا فقد عُرف بشغفه وحبه الشديدين لكل فنون الكتاب وكان الخطاط شمس الدين محمد بايسنقري شيخه في الخط وخطاط البلاط في نفس الوقت، ولهذا عُرف بلقب بايسنقري نسبةً إليه.

أما في بلاد فارس فلم يكن الاهتمام بفن الخط والخطاطين أقل شأناً من هرات، ونأخذ هنا مثالاً قصة الخطاط شاه محمود نيشابوري (ت 972 هـ/ 1564 م) والذي كان يعمل خطاطاً في خزانة كتب طهماسب بن الشاه إسماعيل، فقد قيل ان الشاه إسماعيل الصفوي كان يحبه ويجله، فلما وقعت الحرب بين الشاه والسلطان سليم الأول وخشي الشاه أن يفر محمود إلى جانب العثمانيين أخفاه هو والرسام بهزاد في إحدى المغارات.

ولنختم حديثنا بالتوقف عند محطة الدولة العثمانية لنتلمس مدى رعاية هذه الدولة لفن الخط العربي، إن اهتمام العثمانيين بفن الخط أمر لا يخفى على أي قارئ لتاريخ فن الخط العربي، فقد كان لاهتمامهم أثر كبير في إيصال هذا الفن إلى الذروة، فالسلطان مصطفى الثاني (1106 - 1115هـ / 1695- 1703م )، ثم السلطان أحمد الثالث (1115 -1143هـ / 1703 - 1730م) بوجه خاص، كانا ممن تعلما فن الخط العربي على يد الخطاط الشهير الحافظ عثمان، وقد لقيت فنون الكِتاب ومن جملتها فن الخط اهتماماً كبيراً وتشجيعاً عظيماً في عهديهما. وهناك حادثة مشهورة جرت بين الحافظ والسلطان مصطفى الثاني، قد تكون مثالاً لما ذهبنا إليه، إذ قيل أن السلطان كان يمسك الدواة لأستاذه وهو يكتب، متخلياً بذلك عن أصول التشريفات السلطانية حتى يستطيع الحافظ أن يغمس قلمه بسهولة في مدادها. وذات يوم تعجب السلطان لبراعة أستاذه في تنميق الحروف، فقال: «لا أظن أن حافظاً آخر سيأتي من بعد الحافظ عثمان»، فكان جواب الحافظ له: «إذا جاء من السلاطين من يمسكون الدواة لمعلميهم من الخطاطين مثل سلطاننا فسيأتي من هو أفضل من الحافظ عثمان».

أما السلطان أحمد الثالث فقد أخذ قبل سلطنته الأقلام الستة عن الحافظ عثمان، وكتب أربعة مصاحف وعدداً كبيراً من المرقعات ولوحات الثلث الجلي وبعض النقوش الخطية على الآثار المعمارية، وقد عدت الأعوام العشرة والأخيرة من حكمه، وهي التي سميت «بعهد اللاّله» أي الخزامى عهداً زاهراً في الثقافة والفنون. حيث ازدهرت فنون الكتاب من خط وتذهيب ومنمنمات وتجليد وغير ذلك ازدهاراً عظيماً خلال حكمه، ولم تعش ذلك الازدهار بعده مرة ثانية، فقد كان يشجع المشتغلين بهذه الفنون ويحميهم والمعروف أن السلطان أحمد الثالث كان يطلب المداد من الخطاط «سيد عبد الله أفندي يدي قوله لي» فإذا أعاد إليه الدواة أعادها مملوءة بالمجوهرات.





* مشرف الخط العربي والزخرفة جامعة الكويت

* البحث ألقي في ملتقى الخط العربي الأخير في الكويت