د. وليد التنيب / قبل الجراحة / زعيم التجار
1 يناير 1970
02:50 م
كنا نعيش في إحدى المناطق بالبلد
وكان جيراننا يقاربوننا في الأعمار
فكنت وإخواني أصدقاء معهم في المدرسة و«الفريج»
كانت تجمعنا معهم العديد من الهوايات المشتركة، ولكن الهواية الأكثر شعبية كانت كرة القدم.
فكرة القدم... يبدو لي أن لها سحراً غريباً في معظم مناطق العالم المتقدم والمتأخر...
كان سكان أحد البيوت في منطقتنا، أو بشكل أدق، «بفريجنا» لديهم ولد في سن مقاربة لنا ولكن هذا الولد «قصته قصة» كما يقولون...
كان باختصار معتوهاً ولا يميّز بين الصواب والخطأ... بين الصح والغلط...
للأسف، كان كل من «بالفريج» يعتبره أضحوكة له.
الكل يرغب في الضحك عليه أو إضحاك الناس عليه!
أما روّاد المسجد، فقد انقسموا نصفين
نصف لا يرغب في دخوله المسجد أبداً...
والنصف الآخر يرغب فيه ويصرّ على دخوله إرضاء لرغباتهم «الضحكية» أو الهزلية. فهو دائم الفعل للحركات المضحكة والمسلية للطرف الثاني!
الطرف الأول عمل اللازم من الاستنكار والشجب «وبس»...
واستمر «زعيم التجار» - وبالمناسبة فهذا هو اللقب الذي أطلقه عليه رواد المسجد المحبين للضحك - أي الطرف الثاني...
زاد «زعيم التجار» من مقالبه لرواد المسجد وزاد استنكار وشجب المجموعة المعارضة لدخوله المسجد!
كانت أسرة هذا الشاب أو «زعيم التجار» أسرة مثقفة عالية التعليم، ولكنها فشلت في إخفاء ابنها...
فشلت هذه الأسرة بشتى الطرق التي استخدمتها واستسلمت أخيراً وتركته لمصيره مع الشارع...
فـ «زعيم التجار» يخرج من منزله صباحاً ولا يعود إلا للأكل أحياناً أو للنوم غالباً...
فأصبحت وظيفتها إعداد مكان لنومه وأكله فقط!
كان كلام «زعيم التجار» غير مفهوم أبداً وصعب على الكل فهم ما يريد إذا ما تكلم. لذلك، بدأ يستخدم يديه وكل شيء يتحرك به لإيصال فكرة ما يريد... هذا إن كانت هناك فكرة.
لقب «زعيم التجار» انتشر بسرعة غريبة، حتى أنك إن لم تناديه بهذا الاسم فمصيرك «الزعل» وحركات قبيحة من هذا الشاب مصاحبة بماء يخرج من فمه... أي «تفلة»!
شاءت الأقدار أن نسافر مع أبي...
فقد قررت الدولة إرسال أبي للعمل في إحدى السفارات...
وقرر أبي تأجير المنزل الذي نعيش فيه زيادة للدخل ومن مبدأ أنه أفضل من ترك المنزل فارغاً...
استشارنا أبي في هذا الموضوع والكل وافق باستثناء أمي وأخي الكبير وأخي وأختي اللذين يصغرانني وأختي التي تكبرني...
إذاً الموافقون أنا وأبي فقط، والنتيجة النهائية حسب ديموقراطية أبي موافقة على التأجير...
تمّ تأجير البيت لرجل وقور جداً قال لأبي إنه بحاجة إليه ليسكن به حتى انتهائه من بناء بيته...
بعد سفرنا بشهرين، علمنا أنه أجّر البيت لأربع عوائل، أي أربع شقق، والملحق قام بتأجيره أيضاً...
وكراج السيارة أجّره أيضاً لخياط للنساء!
اشتكى أهل «الفريج» من هذا الوضع المأسوي لهم، فقد أصبحت مواقف السيارات «بالفريج» صعبة للغاية وزادت المشاكل العائلية به...
اشتكى أصحاب البيوت لأبي، لكن أبي بديموقراطيته الحديثة لم يعرهم أي اهتمام...
اشتكوا للسلطات... فاتصل أبي بنائب منطقتنا وقام باللازم ولم يستطع السكان فعل أي شيء ورضخوا للأمر الواقع...
كان أبي قد اشترى منزلاً جديداً في منطقة أخرى، وكان قد بدأ إجراءات تأجير هذا المنزل أيضاً، ولكن والحمد لله لم يؤجر هذا البيت...
علم أبي بالصدفة من الجرائد أن قرار عودته إلى البلد قد اتُخذ!
رجعنا إلى البلد والعام الدراسي في منتصفه وأخي الصغير في الثانوية العامة ولا توجد مدرسة تقبله...
يا لها من ورطة ومكافأة لأبي على عمله!
توسّل أبي لمتخذي القرار لتأجليه حتى نهاية العام الدراسي، ولكن لا أذن صاغية.
اتصل بنائب منطقتنا، فإذ بالذي سيأخذ مكان أبي ابن عم نائب منطقتنا...
أكلنا... كلنا وعندنا إلى البلد الجميل...
توسّل أبي - بشكل مذل إلى كل نظّار المدارس الخاصة ليقبلوا أخي الصغير ولم ينجح...
نصحونا بمدرسة في المناطق الخارجية تقبل الكل حتى إن كان آخر يوم بالمدرسة...
ذهبت مع أبي إلى هذه المدرسة لمناقشة انتساب أخي لها...
كان الناظر مؤدباً جداً وأظهر تعاطفاً كبيراً مع أخي وقبله بالمدرسة وأخذ الشيك من أبي بنفسه...
الغريب أننا دفعنا لهم المصاريف الدراسية كما لو كان أخي قد بدأ معهم من بداية السنة...
أمور لا تهم مقابل عدم ضياع السنة الدراسية على أخي...
بعد وصولنا إلى البلد الجميل بشهرين...
قررت أن أزور منطقتنا السابقة، فلي فيها الكثير من الذكريات القديمة والكثير من الأصدقاء...
وصلت إلى المنطقة مع آذان العشاء، فقررت دخول المسجد للصلاة...
نعم، هذا مسجدنا كما عهدته لم يتغيّر به أي شيء.
الدرج المكسور نفسه...
السجاد نفسه وألوان الحائط نفسها...
بدأت الصلاة، فإذا بي لا أفهم أي شيء...
ماذا يقول هذا الإمام؟...لا أفهم أبداً... كلام مبهم ولكن الكل ساكت...
حاولت أن أصلح للإمام...
«دعس» المصلي الذي بجانبي على قدمي ليسكتني...
كانت «دعسة» قوية جداً ذكرتني بمعظمنا إذا أراد أن يؤدب أولاده بالضرب، فهو يضربهم ليصيبهم بإعاقة دائمة وليس ليؤدبهم!
ولم يكن هذا فقط، بل ضربني المصلي الذي يقف في الجانب الثاني بكتفه، ضربة تذكرت بها لاعبي كرة القدم عندنا قبل أن يشهر الكرت الأحمر في وجوههم!
إذاً، بشكل مؤدب ومهذب يطلب مني الجميع السكوت وعدم الاعتراض...
انتهت الصلاة من دون أن أفهم أي شيء مما قال الإمام...
ركضت لأكلم الإمام وأشرح له وأستفسر منه...
وكانت المفاجأة أن الإمام هو «زعيم التجار»!
«صج حسافة عليش يا بلد»...< p>