مشاهد / الهمّ القديم
1 يناير 1970
05:59 ص
| يوسف القعيد |
رفضت دعوة صديق لي كي أذهب إليه، وبيته قريب من بيتي بالمناسبة، لكي أشاهد عنده الفيلم المسيء للرسول عليه الصلاة والسلام، والذي** أهان المسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها بالرغم من أن عنوانه: «براءة المسلمين»، ولا تتساءل عن العلاقة بين العنوان والمحتوى.
كان مبرر الصديق في دعوته لي، أن كل الذين يتصدون للفيلم لم يشاهدوه، وأن الموقف منه قريب من «العنعنات». ولو سألت واحدا منهم عن معلومات عن أي الفيلم ستكتشف أنه لا يعرف أي شيء، بل إن بعض الفضائيات والإذاعات سألت الشباب الذين كانوا يحاصرون السفارة الأميركية بالقاهرة أو يتظاهرون في التحرير إن كانوا قد شاهدوا الفيلم، فكان جوابهم الصريح القاطع أنهم لم يشاهدوه. لكنهم سمعوا أنه يسيء للنبي، ولو كان الفيلم محترماً لعُرِضَ في دور السينما وذهبوا وشاهدوه.
استغربت الكلام واعتذرت عن عدم الذهاب لمشاهدة الفيلم أو الأجزاء المتاحة منه عند صديقي الذي يتعامل مع الإنترنت، لأن الحرص على المشاهدة من كل مسلم... قد يوفر لمنتج ومخرج الفيلم فرصة لكي يقولا إن الملايين شاهدت الفيلم على النت هذا الاختراع الذي أخذنا إلى عصر أصبحنا جزءًا منه بالرغم من أنوفنا.
ولأن الشيء بالشيء يذكر أتذكر، أنه في زمن نجيب محفوظ- المتوفى في 2006/8/30 فإن أيا من الزوار عندما كان يريد أن يبهر الرجل. ويأتي أمامه بما لم تأت به الأوائل أو الأواخر كان يتكلم عن منجزات الشبكة العنكبوتية. هكذا كان ينطقها أمامه. وكان الرجل- وهو المتواضع بطبعه وغير المدعي بطبيعته- كان ينظر إلى الأمر باعتباره من الخوارق الكبرى التي لم يكتب له أن يعايشها. ويندم لأنه لم يكن جزءا من الفتوحات الكبرى لهذا الزمان العجيب. هكذا كان يتصرف نجيب محفوظ مع أنه عاصر أهوالا ربما كانت أخطر من الإنترنت.
فنجيب محفوظ المولود في 1911/12/11 عاصر دخول الكهرباء إلى مصر. وتوصيل المياه إلى البيوت. ووصول أول سيارة لمصر. صحيح أن السكك الحديدية كانت موجودة من القرن الذي مضى، ولكنه عاصر تطويرها وتحديثها. إن الانقلاب الصناعي وصل إلى مصر وهو يحيا فيها، بالرغم من أن رواياته التي تغطي السنوات الأولي من القرن العشرين يظهر فيها سوارس، وهو نظام للنقل كان يعتمد على العربات التي تجرها الخيول.
لكن هذا الرجل نفسه الذي وصف لنا سوارس عاصر هبوط أول إنسان على سطح القمر... لا أريد التجول في هذا الأمر، ومن يرد أن يطلع على هذا يمكنه العودة لحديث أجريته معه عن القرن العشرين باعتباره قرن التحولات الكبرى، أجريته معه في الأيام الأخيرة من القرن العشرين والأيام الأولى من القرن الحادي والعشرين. وكان يومها يجد سعادة في التذكر ويتجول بين ذكرياته كأنها حدثت بالأمس القريب.
عندما دخل الإنترنت حياتنا لم يكن نجيب محفوظ محروما منه فقط، ولكنه كان قد حُرِمَ من القراءة الورقية، وكنا نقرأ له بالتناوب... لكن الذين يجلسون معنا أو يترددون علينا كانوا يتكلمون أمامه عن ذلك العالم المدهش: الإنترنت.. لم يكن وصفه بالعالم الافتراضي قد عرف طريقه إلينا، وهذا التعبير عرفناه بعد الخامس والعشرين من يناير 2011. لكن الإنترنت هو الإنترنت في النهاية.
أعود لصديقي «الإنترنتي» والذي دعاني لمشاهدة الفيلم الذي أثار الدنيا.. ولا أدري هل كنت على حق أم لا في اختياري لعدم مشاهدة الفيلم؟، لأن الخطاب بالنسبة لي قد يعرف من عنوانه. المنتج والمخرج إسرائيلي- أميركي. جمع خمسة ملايين دولار من بعض المتعاطفين مع قضيته التي لا أعرفها ولا أريد أن أعرفها. فأنتج بها هذا الفيلم. اختار أن يعرضه في ذكرى الحادي عشر من سبتمبر 2001. بالرغم من أن البعض يدعي أنه شاهده قبل هذا التاريخ. بل قيل إن هذا الفيلم يعرض على الإنترنت منذ عامين مضيا. ولكن بلغة إنكليزية ولم تتم دبلجته باللغة العربية إلا اخيرا ليُعرض ناطقا بلغتنا في الحادي عشر من سبتمبر 2012. فالأمر مقصود به إثارتنا وتحريكنا ضدهم حتى يقولوا علينا إننا نتصرف بشكل همجي. مع العلم أنهم هم الذين يدفعوننا لمثل هذا التصرف بتناول مقدساتنا بطريقة تعتمد على السخرية والحط من شأننا والتقليل من قيمتنا والتعامل مع كل ما هو مقدس في حياتنا باستهانة.
ليتنا كنا تعلمنا من درس هذا الفيلم ضرورة مخاطبة الغرب بلغاته وليس بلغتنا المحدودة الانتشار عند من يتكلمون لغات أخرى، بالرغم من أن عدد الناطقين بها يوشك أن يتعدى المليارات. وأن نعتبر أن الكلام عن ديننا ولا أقول الدفاع فالإسلام ليس متهما والمسلمون ليسوا متهمين أقول إن الكلام عن الإسلام ليس باللغة فقط، ولكن بالصوت والصورة وكل الأشكال الفنية المعروفة.
ليتنا نبادر للمرة الأولى ولا أحب ألا تكون الأخيرة ولا نكتفي بردود الأفعال مثلما نفعل في كل المرات السابقة. حيث نكتفي بردود الأفعال بعد أن يكون الآخر قد وجه لنا ضربة كبرى ثم نستيقظ على إثرها لنرد له ما فعله بنا، لماذا لا نبدأ من دون أن يكون هناك فيلم ولا يحزنون؟ ونتحرك باتجاه تقديم صورة حقيقية عن الإسلام ونبي الإسلام والمسلمين بلغات الغرب المختلفة معتمدين على منجزات الحضارة. لا نتوقف عند الصوت والصورة. ولكن نستخدم الإنترنت بلغاته المختلفة حتى بعد أن تنتهي أزمة هذا الفيلم.
لا بد أن نعتبر أنفسنا في معركة حضارية دائمة مع الآخر. الذي يصر على أن ينظر إلينا نظرة تقليدية ولا يعترف بأننا جزء من حضارته. مع أن البترول الذي يحيا به في كل لحظة في حياته خارج من هذه المنطقة. ومن دون هذا البترول فإن طائراته تصبح قطعا من المعدن مركونة على الأرض، وكل مكونات حياته لا تتحرك لأن الطاقة جزء جوهري من حياته اليومية، لكنه يأخذ بترولنا ويلعننا ويستمتع بالناتج من هذا البترول ويصفنا بالتخلف. ويحيا منذ اللحظة التي يفتح فيها عينيه صباحا حتى اللحظة التي ينام فيها ليلا معتمدا على هذا البترول، ثم يقول علينا إننا بلاد الرمال والجمال والصحاري.
الأمر أبعد من مجرد الهجوم على الإسلام ونبي الإسلام. إنه صراع حضاري وتذكروا ما كتبه فوكو ياما ومن قبله هينجنتون. ومن قبلهم جميعاً ريديارد كابلينج شاعر الإمبراطورية البريطانية الذي قال في قديم الزمان: الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا. ويبدو أن كلامه صحيح. فكل ما جاء بعد هذه العبارة أكدها وكل ما سيأتي سيؤكدها.