خواطر تقرع الأجراس

حكايات جدتي والحكواتي

1 يناير 1970 09:48 ص
| مصطفى سليمان * |

قديماً، ليس بالماضي البعيد، كانت الجدة أو الجد أول حضانة للخيال الأدبي تطرّز خيال الطفولة بألوان قوس قزح من عالم سحر الفن القصصي البديع.

كانت «حكايات جدتي» أول أكاديمية للطفولة تخرج فيها كثير من الأدباء والمفكرين، حيث تغلغلت تلك الحكايات الى باطن الطفولة المترعة بالأسرار والموهبة والفطنة المبدعة. أما جدّات عصرنا فواأسفاه! فمعظمهن مدرسة للأمية الفنية والفكرية والثقافية!

الدكتورة سهير القلماوي من أبرز المتخصصين والمتخصصات في دراسة التراث الشعبي. ورسالتها العلمية عن «ألف ليلة وليلة» صارت، ولا تزال، من الدراسات الأصيلة في فهم هذا التراث الخالد. وقد تخرج على يديها، ويدَي الرائد عبدالحميد يونس، العديد من المتخصصين في دراسة التراث الشعبي في مصر، وفي كثير من الأقطار العربية.

حكايات الجدة هي التي وجّهت سهير القلماوي الى أدب الشعب وكنوزه التي لا تقدر بثمن وذلك بحكاياتها العجوز، شتاءً، حول موقد يثرثر بنار جمره، منشداً لحن الشتاء، لحن المطر والريح، لحن البرد والدفء، لحن الأدب الساحر بقصص الجن والعفاريت والشاطر حسن، وست الحسن والجمال، وعلي بابا والأربعين لصاً، وبالحكايات صيفاً تحت شجر اللوز والجوز والصفصاف، وأغنيات الراعي السحيقة الصدى، وهو يحرث الكنز المكنون.

والدكتور لويس عوض في سيرته الذاتية أوراق العمر- سنوات التكوين تحدث عن عجوز اسمها (سارة) كانت تتردد على منزل أهله وهو في السابعة من عمره.

قال عنها انها كانت منجماً من الفولكلور والحكايات الشعبية، ومنها دخل عالم ألف ليلة وليلة للمرة الأولى. وقد وجّهت، من دون قصد طبعاً، ذائقته الأدبية والنقدية نحو عالم أدب الشعب. وطه حسين تفتحت بصيرته على قصص الزير سالم، وتغريبة بني هلال... حيث كان يهرب من البيت الى قرب المقهى الشعبي في قريته ليستمع الى عازف الربابة وهو يقص، بل ينشِد، ذلك الأدب الخالد الساحر الذي يعكس وعي الشعب دون تزييف أو تنميق.

هذا السحر هو الذي جعل المفكر الثوري الفرنسي فولتير يتمنى لو أنه فقَدَ ذاكرته ليعود الى متعة قراءة ألف ليلة وليلة مرة ثانية.

وفي المقاهي الشعبية العتيقة في دمشق وحلب يمتشق «الحكواتي» عصاه وكتابه العتيق، ويحكي قصص البطولات الشعبية للظاهر بيبرس، وعنترة وغيرهما من أبطال السير الشعبية الخالدة.

الحكواتي في المقاهي الشعبية بمثابة الجد أو الجدة للكبار. والكبارُ صغارٌ أمام سحر الخيال القصصي.

جدات اليوم يحكين قصص الراقصات والمغنيات والمسلسلات التركية والمكسيكية والهندية...

التلفاز جدٌّ تكنولوجي، وأجهزة الآي فون والآي باد والفيس بوك... جدات الكترونية أخرسْن الجدات الآدميات، وأغلقن صفحات ألف ليلة وليلة. وصمتَ الحكواتي بعد أن حمل عصاه العتيقة، وتأبّط كتابه الأصفر، ورحل!

لا سهر في أمسيات الأُسَر. لا تحلٌّقَ حول المواقد شتاءً. لا جلوس تحت عرائش الكروم صيفاً فالكل يهاجر نحو صخب المدينة. صمتٌ مجنون حول التلفاز، أو جلوس كتمثال شمعٍ أمام الحاسوب، أو بين براثن الشبكة العنكبوتية!

أما الكتاب فمهجورٌ مهجورٌ مهجور! يغلفه غبار الصمت والنسيان.

بوركتِ يا جدتي! بوركتَ أيها الحكواتي! فأنتما أكاديمية الخيال الشعبي في زمن القحط الفني.



* كاتب سوري