محمد الوشيحي / آمال / أحرقني القيد يا سيدي

1 يناير 1970 12:27 م

أجد نفسي دائما في صف الخارجين على التقاليد البالية. أعداء الأقنعة. لذلك لا أحضر المؤتمرات والاحتفالات الرسمية التي تصلني دعواتها. مع الاعتذار لأصحاب الدعوات. فما الذي يعنيني في مؤتمر لإلقاء الخطب: «إننا في هذه المناسبة العظيمة»، «أيها الحفل الكريم، إنه ليشرفني ويسعدني»! كلما سمعت مسؤولا يقول هاتين الجملتين، أدركت بأنه سيسرقني، فتجدني تلقائيا أضع يدي على محفظتي وأبتعد للخلف. ففي الكويت أشهر أدوات السرقة هي «البشت». السلاح ذو الحدّين.

أحببت ديانا سبنسر بعدما نُقل عنها قولها وهي تبكي أمام الملكة: «أكره القصر الملكي الذي قيدتني تعليماته». صدقتها. تفهمت مأساتها وتمردها. خصوصا وأنها جميلة. ولو كانت كونداليزا رايس هي من قالت ذلك، لطالبت بتشديد القيود عليها، وعزلها في «حوش الغنم»، ولا تهون الضفادع.

تعاطفت كذلك مع الأميرة «ماساكو» زوجة ولي عهد إمبراطور اليابان - أو امبراطور العرش الأقحواني، كما يسميه الأوروبيون - بعدما قرأت مقتطفات من كتاب لأحد الكتّاب الأستراليين كشف فيه أسرارها النفسية، وصراعها مع المشرفين على القصر. وشدني في الكتاب أنه رغم مكانة الأميرة، ورغم مكانة زوجها، إلا أن ذلك لا يعني ألا تصغي لـ «مسؤول البروتوكول والتقاليد الإمبراطورية» وتعليماته الصارمة. كانت تشكو لجليساتها منه: «تخيفني تقطيبة حاجبي هذا المخلوق». هي لا تملك حرية اختيار جليساتها. فالجليسات من اختيار القصر. ومن أسر معينة. ومواعيد زيارتهن لها محددة ومسببة. ولا تملك الأميرة حرية الضحك بتلقائية. فللضحك أصول وطريقة جلوس معينة. وسينقلب القصر رأسا على عقب لو تمادت الأميرة في ضحكها وضربت أحد كفيها بالآخر. هي لا تملك أيضا حرية الشكوى من ألم أصابها في مفصلها. فعائلة العرش الأقحواني يختلفون عن بقية البشر. ثم ان عليها أن تنام في دقيقة محددة. القصر كله يجب أن ينام في الدقيقة تلك. الأنوار ستطفأ في موعدها. بالثانية. ولا يمكن وتحت أي ظرف إعادة فتح الأنوار، بما فيها نور جناحها الخاص. ولهذا وغير هذا، انهارت الأميرة تحت وطأة القيود في سجن «أبو غريب» المسمى زوراً «القصر الإمبراطوري». وكثر بكاؤها. وداهمتها جحافل الأمراض النفسية. برا وبحرا وجوا. فتحولت إلى كتلة من العُقد على هيئة إنسان. بدرجة أن تقف أمام الجدار لتفضفض له وهي تمسح دموعها: «صدقني، مللت القيود والأقنعة».

عند ذاك - وعلى ذمة الكاتب - تم استدعاء الطبيب النفسي للقصر الذي عرف علّتها، فاقترح على زوجها أن يصحبها في جولة خارج اليابان، علّ الجولة تكسر الجمود في حياتها. وتم لها ذلك بالفعل. إذ زارت الصيف الماضي بعض الدول الأوروبية من دون مرافقة مسؤول القصر أو «المخلوق» كما تسميه. ولأول مرة في حياتها، مُنحت حرية اختيار مواعيد نومها بنفسها. وبعد عودتها إلى اليابان كشفت لطبيبها سرا خطيرا: «طبيبي العزيز، كانت الرحلة خيالية، فقد تركت أضواء الجناح الذي أسكنه مفتوحة طوال اليوم. لقد نمت والأضواء مفتوحة. هاهاها. كانت ليال لا تنسى».

سيدتي «ماساكو»... نحن مثلك نعيش في قصر امبراطوري. وإن كنتِ تعانين من حاجبي مخلوق واحد، فنحن هنا نعاني من حواجب مخلوقات لا حصر لها. صحيح أن لنا حرية الشكوى من ألم المفاصل، ولنا حرية النوم والأضواء مفتوحة. لكنهم يحرمون علينا الفرح.

فغني معنا سيدة «ماساكو» لنوابنا المتدينين أغنية عبد المجيد عبد الله: «أحرقني القيد يا سيدي، يا سيدي ارفق على سيدك، بدايتك كانت بيدي، نهايتي صارت بيدك».

***

أثناء كتابة المقال، بلغني خبر قبول استقالة بدر الحميضي من الوزارة، فهاتفته: شكرا بو مشاري، كنت أتوقع منك ذلك. فقال ضاحكا: «يا بو سلمان أنا كنت ولا أزال على استعداد لعمل أي شيء، أكثر من مجرد استقالة من حكومة، في سبيل إبعاد البلد عن التأزيم. فالكويت أبقى وأهم وأغلى من بدر الحميضي وغيره»... عندها، لم أعلق سوى بكلمة واحدة: «صدقت».


محمد الوشيحي

[email protected]