| مها بدر الدين |
أيام عديدة بعد السنة مرت على المأساة السورية، يحمل كل يوم في طياته قصصا مرعبة عن بعض مما يجري على الأراضي السورية من جرائم ضد الإنسانية، وتحصى كل ليلة أعداد القتلى لتزين بها أخبار القنوات الإخبارية الفضائية التي لم يعد يظهر على مذيعيها تلك الحرقة في النبرة أو الحزن في الوجه، بعد أن أصبحت تلك الأعداد واقعاً يومياً تعود عليه السوريون احتساباً وصبراً، وتعود عليه العالم بأسره خزياً وعاراً، وبنية مبيتة طبخت على نار هادئة لعقود من سنين القحل السياسي الممل، تحول المواطن السوري لمجرد رقم مؤهل في أي لحظة للانضمام لقائمة الشهداء أو المعتقلين أو اللاجئين.
وقمة عربية أخرى عقدت، حملت معها أكثر من أي وقت مضى رائحة التخاذل العربي الذي فاحت حتى أزكمت الأنوف بعد سلسلة طويلة من المهل التي أعطتها للنظام السوري اللا شرعي طوال عام مضى، ليعمل قتلاً وتنكيلاً وتشريداً للشعب السوري العظيم الذي مازال صامداً رغم هول المصاب بوجه النظام الأسدي المستبد والعرب المتخاذلين والمجتمع الدولي المتقاعس عن أداء حقوق المجتمع السوري المشروعة.
فهذه القمة التي عقدت تحت لواء العراق المتورط في جزء من أحداث سورية الدامية لم تحرز تقدماً في موقفها وقراراتها المتعلقة بالأزمة السورية واكتفت الوفود العربية كعادتها منذ سنين طويلة بإلقاء خطبها التي حفظت الشعوب العربية مضمونها المفعم بعبارات الشجب والاستنكار والدعوة على اللحمة الوطنية ورص الصفوف لدحر العدو الإسرائيلي، وحديثاً زادت عليها دعوة النظام السوري لوقف العنف في إظهار تام للعجز العربي المخجل تجاه إلزامه بتطبيق كل المبادرات العربية والخطط الدولية التي وافق على بنودها وتمنع عن تنفيذها.
وما زيارة بشار الأسد إلى حي بابا عمرو المغتصب للوقوف على ما ارتكبت يداه، إلا إدراك منه لهذا العجز العربي وتحد سافر للمجتمع الدولي، واستفزاز وقح للشعب السوري المكلوم الذي إن صبر لا ينام على ضيم، وان قام لا يتقاعس عن الثأر للدم، وان كان بشار قد داس على دماء الشهداء المراقة في شوارع بابا عمرو، ووقف على أطلال بيوت أهله المكلومين، إنما يرسل رسالة مبطنة إلى القاصي والداني يتغنى فيها بأمجاده الإجرامية وقوته الدموية ويصور نفسه الفاتح الهمام الذي فتح حياً من أحياء مدينة حمص الصامدة، ويحتفل بنصر مزيف على شعب أعزل قاومه باستماتة ولم يغلبه سوى قلة العتاد والدعمين المعنوي والمادي الذي تخاذل عن تقديمه العرب الأشقاء والغرب الأصدقاء.
ولم يكن مؤتمر أصدقاء سورية الذي عقد في اسطنبول وبحضور عدد كبير من دول العالم بأحسن حال من القمة العربية، فها هي دول العالم تتسابق في الدلو بدلوها في بئر الأزمة السورية في بحث عبثي لإيجاد حل ديبلوماسي لمعضلة عسكرية أفرزها نظام الأسد الذي أكد على مدار العام السابق أنه نظام أمني استبدادي وعسكري ديكتاتوري هدفه الوحيد الاستيلاء على السلطة في سورية وتثبيت أركان حكم العائلة أولاً والطائفة ثانياً وما يتبعهما من أصحاب المصالح الاقليمية ذات الصبغة العقيدية.
وبدا التناقض واضحاً بين المواقف المعلنة والأفعال الباطنة، ففي الوقت الذي اعترفت فيه أكثرية الدول المجتمعة بخطوة متأخرة ديبلوماسياً بالمجلس الوطني السوري كممثل شرعي عن الشعب السوري، إلا أنها أسقطت من هذا الاعتراف كلمة «ووحيد» لتترك الباب موارباً لدخول جبهات معارضة أخرى مستقبلاً ليعود الجدل حول الانقسامات التي تعانيها المعارضة السورية، خصوصا أن هذه الانقسامات كانت لفترة طويلة مضت المشجب الذي تعلق عليه الدول الغربية تقاعسها عن دعم المعارضة السورية سياسياً ومادياً وعسكرياً.
كما أظهرت الولايات المتحدة الأميركية تخبطاً في مواقفها وتذبذباً في أقوالها تجلى في محاولة هيلاري كلينتون تحويل مسار القضية السورية نحو الصراع الإيراني - الأميركي واختزال المسألة السورية بربطها بالخطر الإيراني على المنطقة، ورغم صحة الجزء المتعلق بوجود خطر آتٍ من الناحية الإيرانية، إلا أن محاولة كلينتون هذه كان فيها إغفال مشكوك بتعمده لمنطلقات الثورة السورية التي اندلعت لتحقيق مصلحة الشعب السوري في بناء مجتمع ديموقراطي متعدد والقضاء على احتكار السلطة والتفرد بها، وتحسين الوضع السياسي والاجتماعي والاقتصادي السوري بعيداً عن النظام السوري الذي أدرك الشعب السوري إعاقته المتعمدة على مدار عقود من الزمن لتطوير وإصلاح الدولة والمجتمع في سورية.
وكان لتركيا النصيب الأكبر من هذا التناقض المفضوح، فخلال العام الماضي كثيراً ما أزبدت تركيا وأرعدت وتوعدت وهددت، ووعدت وهمدت، ولم يصل للسوريين منها سوى صوت مبحوح تسمعه خافتاً حيناً وناشزاً أحياناً أخرى، وتناست ما كان من أمر الممرات الآمنة والمناطق العازلة التي وعدت بها الشعب السوري في تغاض مخجل عن المأساة اليومية التي تتسارع وتيرتها يومياً بما لا يتناسب مع سرعتها في التحرك لمساعدة الشعب السوري المتواجد خصوصا في الجزء الشمالي من الأراضي السورية المتاخمة لحدودها، وأصبح من الواضح أن تركيا ارتضت لنفسها أن تشكل ظلاً عملاقاً للولايات المتحدة الاميركية في الأزمة السورية، يتميز هذا الظل بضخامة الشكل وشدة الالتصاق واتباع حركته لحركة صاحبه.
هذه التناقضات في مواقف دول المجتمع الدولي بشقيه الغربي والعربي جعلت من الأزمة السورية سوقاً سياسياً يتم فيه تبادل المصالح وإبرام الصفقات على مائدة الدماء السورية التي امتلأت بجميع أصناف المآسي الإنسانية، وهو ما خدم النظام الأسدي كثيراً حيث أدرك أن هذه المائدة قد فتحت شهية المجتمع الدولي على ملء أطباقه من الطبخة السورية التي وضعت على نار هادئة يديرها كوفي أنان في مهمته الشهيرة ويحاول إنضاجها قبل أن يحرقها النظام السوري بكذبه المعتاد.
فمتى يدرك هذا المجتمع الدولي أن بشار الأسد قد أمن العقوبة فتمادى في إساءة الأدب، وأن الشعب السوري المنكوب لم يعد قادراً على تحمل المزيد من سياسات الابتزاز والتسويف والمتاجرة بدمه، وأنه يرفض كل المؤتمرات التي يحاول فيها الأصدقاء فقط... جبر خاطره؟؟؟
[email protected]