| بيروت - من محمد بركات |
يقع مبنى شركة «هامر موتورز» على بولفار سنّ الفيل، مقابل سنتر ميرنا الشالوحي، في شارع هادئ، رغم ضجة الأوتوستراد القريب منه. مبنى قديم لا يوحي أنّه المركز الرئيسي لشركة تصفيح السيارات الوحيدة في لبنان. مبنى مخصص لعرض سيارات ذات دفع رباعي، ولتأجير سيارات مشابهة.
مالكو المبنى، آل خوري، وبعد أحداث 11 سبتمبر، رأوا أن منطقة الشرق الأوسط تتجه الى دوامة أزمات عميقة، وأنها ستتحول منطقة من دون أمن. وصحّت توقعاتهم بعد غزو القوات الأميركية الأراضي الأفغانية، ثم الأراضي العراقية، فما كان منهم الا أن بدأوا نشاطهم في استيراد السيارات المصفحة من الولايات المتحدة ومن أوروبا وتصديرها الى العراق وأفغانستان ودول الخليج وحتى بعض الدول الأوروبية، في محاولة لارواء سوق جائعة الى الأمن الخاص، بعدما بدا واضحاً أن الأمن الذي توفره السلطات الرسمية في طريقه للتحول الى ذكرى جميلة وقديمة. وكان زبائنهم من رجال الأعمال الآتين على صهوات الدبابات تارة، ومن أصحاب المصارف ومديري الشركات الكبرى تارة أخرى، ومن المسؤولين الكبار أو الصغار حيناً، ومن السفراء ورجال أمن السفارات أحياناً.
وما هي الا سنة أو أكثر حتى انتقل اللاأمن الى لبنان، وطن آل خوري، ومن بينهم مدير الشركة ايلي خوري، الذي رأى ان من الضروري توسيع السوق بالعودة الى البلد الأم، لبنان.
السوق اللبنانية
بدأ آل خوري في استيراد السيارات المصفحة من أوروبا والولايات المتحدة وبيعها الى من يطلبها من المسؤولين اللبنانيين. لكن ازدياد الطلب جعلهم يفكرون في تصفيح السيارات بأنفسهم، لزيادة الأرباح من جهة، ولتوفير عناء الاستيراد والتصدير من جهة أخرى.
وهكذا كان، فافتتحوا في يونيو من العام 2004 مصنعاً صغيراً في مكان سري في لبنان، حفاظاً على أمن الزبائن والعاملين في المصنع. وما لبث أن توسع عمل هذا المصنع ورقعته حتى بات اليوم يضمّ نحو مئة موظف، بين عمال ومهندسين وتقنيين، لا تعرف حتى عائلاتهم نوعية عملهم أو مكانه، ولا يعرفون، هم أنفسهم، سيارة من يصفحون. وقبيل اغتيال الرئيس رفيق الحريري، كان أصحاب الشركة قد قرروا ارسال سيارة يصفونها بالـ «ملالة» الى الرئيس، وكان الموعد في 14 فبراير، لكنّ الموعد ألغي باغتيال الرئيس في اليوم نفسه.
بعد الاغتيال زاد الطلب بشكل كبير جداً جداً. وكان الطلب المحلي ينخفض بعد مرور أشهر أو أسابيع من دون أحداث أمنية قوية أو مؤثرة، ليعود الى الارتفاع مع كلّ اغتيال أو تفجير.
لكن الطلب الاقليمي، يقول مدير الشركة ايلي خوري، لم ينخفض وان مرة واحدة، وهو ثابت بين العراق وأفغانستان والدول الخليجية وحتى بعض الدول الأوروبية.
سيارة كل يوم
تصفّح شركة «هامر موتورز» اليوم ما يزيد على ثلاثين سيارة في الشهر، أي بمعدّل الانتهاء من تصفيح سيارة يومياً. والسيارة الواحدة في حاجة الى مدة تتراوح بين أسبوعين وأربعة أسابيع، بحسب التقنيات والمواد المطلوبة.
اذاً تدرّ هذه الصناعة الحديثة ملايين الدولارات سنويا، حيث انّ تصفيح سيارة واحدة يكلف الزبون، كحد أدنى، ما لا يقلّ عن 35 ألف دولار، في أقلّ الشروط الأمنية.
ويرتفع السعر الى ما يتراوح بين 70 و80 ألف دولار، اذا كان الزبون يريد سيارة ضد الرصاص وقادرة على الصمود أمام رشق قوي من رشاشات حديثة.
أما اذا أراد الزبون سيارة مجهزة ضد المتفجرات، قادرة على حفظ حياته في حال تعرض لتفجير مثل ذلك الذي تعرض له الوزير مروان حمادة، فسيرتفع السعر الى أكثر من 120 ألف دولار.
العلبة السوداء
ويستمرّ السعر في الارتفاع كلما زادت المقومات والمزايا الدفاعية، ليصل الى نحو مليون دولار، اذا كان الزبون مهدّداً في شكل جدّ قوي، واذا أراد اضافة تقنيات التشويش على امكانية التشويش على أجهزة موكبه، واذا أراد أن يقتني آخر ما توصلت اليه مخيلات العاملين في المصنع.
وآخر ما توصل اليه المهندسون هو «علبة سوداء» يمكن وضعها في السيارة «الملالة». هذه العلبة تشبه العلب السوداء في الطائرات، أي أنها قادرة على تصوير ما جرى قبل التفجير واذا أمكن ما جرى بعده، لكشف أي حركة غريبة، حتى أن «المحققين قد لا يحتاجون الى التحقيق في الأساس»، يقول خوري، مؤكدا أن «هذه التقنية ليست متوافرة في أي مكان آخر في العالم كله».
موضة الخوف
اذا قلت لبنان، فلا بدّ أن تقول الخوف. الخوف هو سمة لبنان هذه الأيام. وهو شاغل اللبنانيين منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري قبل أكثر من سنتين ونصف سنة حتى اليوم. يومها قتل من قتل ممن كانوا يعبرون الشارع، وأكثرهم شهرة الشهيد عبد الحميد غلاييني، الذي كان يتريّض، كعادته، على شاطئ عين المريسة.
التريض تحول الى موت. الاطمئنان الى سيرورة الحياة العادية، وممارسة الرياضة طمعاً في جسد أجمل وحياة أطول، والتنزه على شاطئ البحر، كل ذلك انقلب موتاً.
كان ذلك الاغتيال اشارة الى أن الحياة كلها في طور التغير في لبنان. الحياة اليومية. انسحب الأمان مع اضمحلال الأمن يوماً بعد يوم. شعر اللبنانيون أن الشخصية الأكثر حماية والأكثر تشعباً من حيث العلاقات المحلية والاقليمية والدولية، لم تكن في أمان، فكيف بهم هم، الناس العاديين، الذين لا مرافقين يجاورونهم ولا أسلحة تذود عنهم. فكيف اذا يمكن أن يحمي مسؤول ما حياته بتصفيح سيارته؟ وهل هناك تصفيح أقوى من ذلك الذي كان يتمتع به موكب الشهيد الحريري؟
تصفيح الحياة
هكذا بات لزاماً على اللبنانيين أن يصفّحوا حيواتهم. أي أن يحيطوا تنقلاتهم اليومية بالحذر، وأن يحيطوا تحركاتهم بالحيطة الشديدة. حتى بات مرور موكب نائب أو وزير أمراً مخيفاً، يجعل السائق يخفف من سرعته لتجنب مرافقة الموكب بضعة أمتار، أو يزيد من سرعته للهروب من امكانية المرور الى جانبه.
هذا بالنسبة الى المواطن العادي، أما المسؤول فبات لزاما عليه أن يصفّح سيارته، أو أن يشتري سيارة مصفحة، أو أن يقبل من رئيس كتلته هدية لا بدّ منها، هي عبارة عن سيارة مصفحة.
لكنّ الغريب أن التصفيح لم يعد يقتصر على المسؤولين السياسيين أو مديري المصارف أو مديري الشركات الكبرى المهددة حياتهم، بل انتقل الى طبقات اجتماعية وثقافية مختلفة.
الفنانون والزوجات
بدأ الأمر، يقول خوري، حين صار اللاأمن منتشرا في شوارع لبنان. حينها بدأت مجموعة من زوجات المسؤولين بطلب تصفيح سياراتهنّ، لا خوفا من الاغتيال، بل خوفاً من التضرر، وفي أقصى الحالات الموت، من دون سبب، في أثناء المرور قرب مكان قرر المجرمون اغتيال أحد ما فيه، أو تفجيره كرسالة الى مسؤول ما.
وكرت سبحة الزوجات وأولاد المسؤولين، لكن من دون السعي للوصول الى درجات متقدمة من التصفيح. كانت طلبات الزوجات والأولاد عبارة عن تصفيح بدائي لا تزيد كلفته على 35 أو 50 ألف دولار كحد أقصى. وبعد الزوجات والأولاد، راح التصفيح يتحول الى موضة، يطلبه ممثلون ومطربون واعلاميون وحتى راقصات، على سبيل الموضة لا أكثر، تشبها بأقرانهم ربما أو رغبة في اختراع prestige جديد يضاف الى صيحات الأثرياء.
يعلن خوري عن سلعته مثلما تعلن شركات بيع أيّ سلعة غذائية أو منتج كماليّ، في الصحف اليومية وفي صحف التابلويد الاعلانية الاسبوعية، حيث تجد اعلانا عن «شركة تصفيح سيارات»، مرفقاً برقمين هاتفيين فقط لا غير، من دون عنوان او أيّ معلومات اضافية.
من الاعلان اذا يبدأ الخوف، خوف مصفّح السيارات من انكشاف هويّته ومكان عمله ونوعية زبائنه. واذا اتصلت بالرقم ستردّ سيدة، اذا قلت لها انّك تريد تصفيح سيارتك، ستسألك فورا عن مهنتك، واذا كانت اجابتك مقنعة ستحدد لك موعدا مع المدير.
وكان لا بدّ أن ندعي أننا نريد تصفيح سيارة في البداية، حتى نحظى بمقابلة، ولاحقا أفصحنا عن أننا نريد القيام بتحقيق صحافي عن الموضوع، فوافق المدير خوري على اللقاء، لكنه لم يرض بالسماح لنا بالوصول الى المصنع وأخذ صور من داخله، قائلاً أن هذا يناقض السرية التي يعد بها زبائنه.