مها بدر الدين / ما بين حمص و كربلاء

1 يناير 1970 06:50 ص
| مها بدر الدين |

«حمص» تلك المدينة العجيبة التي تدخل إليها فتغرق في حبها حتى أذنيك ولا تحاول أن تنشل نفسك من تيار عشقها الجارف، إنها الألماسة النادرة التي تتوسط عقد المدن السورية اللؤلؤي فتزيده جمالاً وبهاء، ترويها قطرات العاصي العنيد فيصبغها بعصيانه للطبيعة لتصبح المدينة العاصية لغزو التتار في الماضي البعيد واحتلال بشار في الحاضر القريب.

«حمص» تلك المدينة المدللة والغالية على قلوب أبنائها الذين أخذوا من تربتها الخصبة حب الخير والعطاء وغضب الحليم الصبور، أبت أن تترك شقيقتها درعا تدفع ثمن الكرامة وحدها فحملت معها لواء الثورة وانتفضت عن بكرة أبيها نصرة للحجارة السوداء في سهول حوران ولتخفف عنها وطأة فاشية النظام الأسدي فدفعت ثمن انتفاضتها وكرامتها سيولاً من دماء أبنائها الأبرار التي لم تزد تربة حمص الحمراء سوى احمرار.

في حمص كل شي يفوق الخيال ويتجاوز المنطق، فسماحة أهلها وطيبتهم سمحت لقاصديها أن يرتعوا في مرابعها بأمن وسلام، ونقاء سريرتهم وحلاوة معشرهم جعلت من المجتمع الحمصي يموج بأطياف سكانية مختلفة المعتقد والاعتقاد تعايشت مع بعضها بهدوء وسلام على مر التاريخ لترسم لوحة بشرية فسيفسائية هادئة الألوان ومتناسقة الخطوط تريح المقيم فيها وتفتن القادم إليها، ولعل خصوبة أراضيها وكرم عاصيها وعليل هوائها ووداعة أهلها جعلها مستقراً للكثير من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، فضمت مقابرها رفات أكثر من أربعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أشهرهم الصحابي الجليل عمر بن معد بن يكرب الذي شهر سيفه البتار في وجه الفرس فأوجعهم، والصحابي الجليل خالد ابن الوليد سيف الله المسلول الذي ترك في تكوين كل فرد من أبناء حمص شيئاً من صفاته الحميدة في العزة والكرامة والشجاعة والإقدام.

واليوم تبدو حمص أبعد ما تكون عن الخيال والمنطق، فما يحدث داخل أحيائها المحتلة وما يجري في دهاليز حواريها المفجوعة، تجاوز كل ما يمكن أن يتوقعه العقل وأن تبصره العين، فقد تفننت قوات النظام السوري المحتلة العسكرية منها والأمنية في معاقبة أهل حمص الثائرين المطالبين بحريتهم وكرامتهم التي انتهكت على أعتاب القصر الجمهوري في المهاجرين، وابدع الشبيحة والمرتزقة المستوردون من الخارج بالتنكيل بأهلنا في حمص فلم يتركوا عزيزاً إلا أذلوه، أو حراً إلا قتلوه، أو عرضاً إلا هتكوه، أو طفلاً إلا نحروه، وانتشرت رائحة الموت في أرجاء حمص العديدة مع انتشار المذابح البشرية التي يندى لها جبين الإنسانية وتلفظها جميع الديانات السماوية.

هذه المذابح البشعة تفرض على ذاكرتنا العودة إلى التاريخ البعيد حيث مذبحة كربلاء حين قتل الحسين بن علي رضي الله عنه، وهو الثائر على الظلم والظالمين، ومثل بجثته أشنع تمثيل، وقتل أولاده بدم بارد وشردت نساؤه، وأصبح يوم استشهاده يوماً حزيناً لجميع المسلمين الشيعة منهم والسنّة، ليس فقط لأنه سيد شباب الجنة وسبط رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل لأنه مسلم لقي مصيره بيد مسلم مثله، ولأن مقتل الحسين بهذه الطريقة الوحشية كانت نقطة عار في تاريخ الإسلام ومفترق طرق للمسلمين، وهو الذي ما زلنا ندفع ثمنه حتى يومنا هذا.

فالنظام السوري منذ بدء الثورة وهو يزرع بذور الفتنة الطائفية ويحاول تغيير مسارها من السلمية نحو حرب أهلية تستعر نارها بين الطوائف الدينية المختلفة التي تعايشت مع بعضها بشكل فريد على مر قرون مضت في هذه المنطقة، وقد فشلت هذه الجهود الشيطانية خلال عام مضى من تحقيق هذا المخطط الطائفي البغيض في كل أنحاء سورية عامة وفي مدينة حمص خاصة وهي الغنية بشتى الأطياف الدينية، وكان لوعي الشعب السوري دوره الكبير في دحض هذا المخطط حتى يومنا هذا، لكن النظام الفاشي يأبى إلا أن يزج بالسوريين بلعبة نارية خطرة ويدفعهم لمواجهة طائفية تبدو حتمية ومتوقعة بعد أن نفذ مجازر حمص باسم سيدنا الحسين رضي الله عنه وهو منها براء، وما وضع الأوباش الذين نفذوا هذه المجازر لعصابة على رؤوسهم مكتوب عليها «لبيك يا حسين» كما ورد على لسان شهود عيان، إلا محاولة مكشوفة من النظام الأسدي لزج الطائفتين الشيعية والعلوية في هذه اللعبة الخطرة التي ستطول نارها جميع السوريين على حد سواء.

وسواء كان النظام الأسدي وراء هذه النية المبيتة، أو أن عناصر شيعية وعلوية قد شاركت في هذه المجازر بشكل طوعي أو إجباري، فإنه ينبغي على كبار الطائفتين والمسؤولين عن مؤسساتهما الدينية والمدنية أن يبادروا إلى استنكار هذه المجازر ورفضها، والنأي بالطائفتين عن الخوض في معركة دموية فاسدة يقودها نظام غاشم ضد شعب أعزل مسالم يرفض أن تتحول أرض وطنه إلى ساحة كر وفر بين أفراده، كما من الأولى بأبناء الطائفتين الكريمتين داخل سورية وخارجها أن يعلنوا موقفهم الإنساني والديني مما يرتكب بحق اخوتهم في سورية من مجازر دموية بدم بارد، وأن يناصروا أصحاب الحق في العيش الكريم إرضاء لله سبحانه وتعالى ورأباً لصدع صغير يشقه النظام بين أطياف الشعب السوري قبل أن يزيد عمقه ويكبر شرخه فيستحيل تقويمه ويصعب رتقه.

ومن الأجدر بكل إنسان مستنير العقل سليم القلب أن يقف ضد ما يمس البشرية في مقتل على يد من لا يعرف لله حدوداً ولا للإنسانية وجوداً، وأن يسارع المواطن البسيط للوقوف في وجه فرعون دمشق قبل أن ينجح في تحويل حمص إلى كربلاء أخرى تزيد أحزان المسلمين حزناً وتلون تاريخهم بسواد آخر يصعب الخروج من دائرته لأزمان طويلة أخرى.