أماكن / نقوش بورسعيدية (2 من 2)
1 يناير 1970
03:30 م
| جمال الغيطاني |
انحدر أبناء بورسعيد واستقروا في المنطقة ونسبة كبيرة منهم جاءوا من الصعيد، وآخرون جاءوا من دمياط القريبة المطلة على الطريق المحاذي للقناة منذ عام تسعة وستين مع بدء الأعمال القتالية التي شكلت حرب الاستنزاف والتي توقفت عام سبعين وألف وتسعمئة، وبالرغم من توقف إطلاق النار حتى أكتوبر عام ثلاثة وسبعين.
عندما بدأت حرب أكتوبر، فقد ظل الطريق إلى بورسعيد عبر دمياط بالنسبة للمدنيين، وللتحركات العسكرية ذات الطبيعة الخاصة، كانت المنطقة الواقعة بين الإسماعيلية وبورسعيد قد تأثرت بالقصف الجوي الإسرائيلي الكثيف، وأذكر أنني رأيت منطقة الكاب القريبة من بورسعيد وكأنها جزء من أرض القمر المليئة بالثغرات والفوهات، كان القصف الإسرائيلي بقنابل ثقيلة من زنة الألف رطل، والألفين، كان انفجار هذا النوع يشبه انفجارات ذرية صغيرة.
حتى يونيو عام سبعة وستين.. كان ترددي على المدينة بدافع اكتشاف خصوصيتها التي قفزت إليّ وجعلتني أشعر بألفة مع المكان، سواء في الحي الأفرنجي الذي كأنما زال يحمل بقايا المدينة الكوزموبوليتينية متعددة الثقافات، والحي العربي الحميم، الفريد بعمارته ذات الواجهات الخشبية ورائحة السمك المشوي التي يبدأ تصاعدها قبل الظهيرة.
أحتفظ في ذاكرتي برائحة السمك من أماكن عديدة مطلة على البحر، لكن ثمة خصوصية داخل الذاكرة لرائحة أسماك بورسعيد... ذلك الشواء لم أعرف مثيلا له، يعرف البورسعيديون أسماك البحر جيدا ولهم طرائق فريدة في إعدادها، وبالرغم من أنني طفت مدنا عديدة مطلة على البحر الأبيض فلم أعرف مثيلا للطهي البورسعيدي الخاص بالسمك، خاصة إذا أتيحت الفرصة وتم تناول الطعام مع أسرة بورسعيدية أصيلة، من الأسماك المفضلة التي لم أعرف لها مثيلا في أي مكان آخر.
نوع صغير الحجم، في حجم راحة اليد، اسمه «الشبار»، ويعيش في المياه غير السريعة بالبحيرات، خاصة بحيرة المنزلة، سمك غزير اللجم، شاهق البياض من الداخل، يؤكل مع الأرز المفلفل، كنت أتجول في الشوارع المتقاطعة، المؤدية كلها إلى البحر، وكانت المسافة وقتئذ بين البحر والمباني... فسيحة.
كنت أجلس عند رصيف عمارة لويس كلوفيتش الشهيرة باعتباره آخر حد المدينة وكان عبوري القناة تجربة فريدة، العبارات التابعة للهيئة والتي لاتزال تعمل حتى الآن، تنقل السيارات والدراجات والبشر، ما بعد الظهر وقت الذروة، خاصة في السادسة، بالنسبة لي أنا الجنوبي... كان النيل يعني بالنسبة لي البحر، ولكنني مع الترحال رأيت البحر الأكبر.
والانتقال من بورسعيد إلى بورفؤاد... يعني الانتقال إلى قارة أخرى إلى آسيا، لم يكن لي أصدقاء في ذلك الوقت بضاحية بورفؤاد «الأوروبية الطابع ذات المنازل الأنيقة من طابق واحد»، كنت أتجول في طرقاتها من دون هدف محدد، أمشي لساعتين أو ثلاث، يتعهد عندي الشعور أنني وصلت إلى مكان مغاير، مختلف، في بورسعيد يمدنا الحي البلدي بالألفة، خاصة شارع محمد علي الذي يقوم بدور الوصلة بين الأفرنجي والبلدي.
والمقاهي هي الأماكن المفضلة عندي، فيها سمعت للمرة الاولى كلمة «البوري»، أو «المصري».. ويطلقان على النرجيلة التي يتم تدخين المعسل فيها، هذه التوليفة المصرية الخالصة التي انتشرت الآن في العالم كله، شارع محمد علي بأقواسه التي تذكرني بشارع محمد علي في القاهرة، وكلاهما له مرجعية استند اليها علي باشا مبارك الذي وضع أساس القاهرة الحديثة في منتصف القرن التاسع عشر.
إنه شارع ريفولي في باريس والذي قدر لي أن أشهده للمرة الأولى عام تسعة وسبعين من القرن الماضي، الشارع الباريسي لايزال يحتفظ بأقواسه كاملة حتى الآن، ولكن الشوارع القاهرية فقد معظمها، أما البورسعيدي فلايزال يحتفظ بالعديد منها، مكاني المفضل مقهى البورصة... أقدم المقاهي البورسعيدية كما يؤكد مؤرخ المدينة ضياء الدين حسن القاضي.
حتى عام سبعة وستين كانت علاقتي بالمدينة علاقة اكتشاف للقراءة وللخصوصية، لكن هذه المدينة الآمنة، وهؤلاء البشر اللطاف.. الذين مازلت أحب الإصغاء إلى لهجتهم ذات الإيقاع الخاص جدلا، والتي لا أدري متى أتقنوها أو متى أوجدوها، بالرغم من أنهم جاءوا من أماكن عديدة من داخل مصر.
تكامل الشخصية البورسعيدية واتخاذها سمات خاصة بها خلال فترة زمنية قصيرة... من الأمور التي أرجو أن تدرس بعناية ودقة، خاصة وأن البورسعيديين لم يكتفوا باللهجة وخفة الحركة. إنما أوجدوا تراثهم الشعبي الخاص بهم، المتميز جدا.
هؤلاء الناس الذين ارتبطوا بمدينتهم ارتباطا عميقا، ولاأزال أذكر إيقاع جملة قالها لي صياد عند شاطئ البحر ذات يوم.. من إحدى سنوات الستينات، قال لي: «إحنا البورسعيدية متربيين على طبلية أهالينا»،
حتى يونيو سبعة وستين... كانت الحياة تمضي بشكلها البورسعيدي الحميم، ولكن مع حلول الخامس منه بدأت الأيام الوعرة، وقدر لي أن أعيشها بتمامها وجميع تفاصيلها لكن تلك قصة أخرى.