حين قلت لمخرج العمل المسرحي الدكتور اياد حامد، إن عنوان المسرحية طويل جداً (أيها السيد شكسبير لقد... إلى آخر المعلقة)، فاننا قبل أن نكمل قراءة عنوان المسرحية، تكون مشاهدها قد انتهت وبدأ الجمهور بالتصفيق ومغادرة الصالة!
قال: هذا اعتداء صريح.
ومسرحيتك عنيفة أيضاً. يمكن أن أطلق عليها تسمية غزوة، وأنت تقول هي رسالة. وبالفعل فإن هذا العمل هو غزوة للعقل السويدي الذي يناقش التقاليد الشرقية، دون الانتباه للإيجابي منها، الذي تفتقده حياة الغرب، وللعقل الشرقي الذي ترعبه فكرة انتشار الفضيحة أكثر مما يرعبه الفعل المباشر المؤدي إليها. وعلى أساس ذلك يتخذ وينفذ قراره برد فعل مباشر وعنيف. تسويق الفعل، وليس الفعل ذاته هو ما يخيف العقل الشرقي، فيقطعه بجريمة القتل غسلاً للعار.
أي ان هدف هذه الجريمة إسكات الأصوات ومنع الشائعة من الانتشار، وليست معالجة الفعل نفسه. هذا النوع من الجرائم، أي حوادث غسل العار وتزويج الفتيات بالإكراه، كان الأوروبيون يقرؤون عنه، أما اليوم فقد أصبحت هذه الجرائم حقيقة واقعة ترتكب على الأرض وأمام أعين المجتمعات الأوروبية. لذلك انتشرت أخبارها وتفاصيلها عبر وسائل الإعلام مع صور وأسماء ضحاياها من الفتيات المراهقات وكذلك صور وأسماء الجناة، ما أتاح مادة مهمة لأطراف عنصرية لترويج دعايتها ضد الأجانب، لذا صار لابد لمثقفي الشرق المقيمين في السويد من الرد. إذن فهي غزوة كما أشرت، والدليل على ذلك، أن امرأة شرقية علقت بعد العرض.
أمر آخر من المهم الإشارة إليه بدقة هو فعل الجريمة. لماذا لم يصف العمل الجريمة بالقتل، وإنما وصفها بالاغتيال؟ أعتقد أن وصف الفعل يخرج بالجريمة من إطار القتل المحدود الموجه ضد الجسد، ويتعداه إلى اغتيال حلم ومستقبل وثراء واسع من الأمنيات.
إن قلنا غزوة، وهذا هو الرأي التوصيفي الأول الذي علّمتُ العمل به، فإن المخرج اياد حامد قد غزا المسرح بعشرة من الشباب الذين يشاركون حرفياً في أول عمل لهم.
سواء كان العمل غزوة أم رسالة، فإن الممثلين العشرة أنجزوا ستة عشر مشهداً مسرحياً متميزاً نصاً وإخراجاً، تناوبت بين مشهد واقعي وآخر حُلُمي في خط إخراجي بذل المخرج والممثلون في قراءتها والتدريب عليها، وأخيراً تقديمها أمام جمهور كبير زاد عدده على عدد مقاعد الصالة في مبنى الشعب في (رنكبي)، بذلوا جهوداً كبيرة. فالمشاهد الواقعية مأخوذة من واقع فاعلية الأجانب في المجتمع السويدي، وأول بيئة يتم فيها الاختلاط والحوار أي المدرسة. أما المشاهد الحُلُمية فهي مأخوذة من أعمال شكسبير الأكثر شهرة (هاملت، حلم ليلة صيف، ماكبث وروميو وجوليت).
وبين مشهد واقعي وآخر حلمي، ثمة مشهد يحرّض مشهداً. يتصاعد الفعل الدرامي ليصل إلى ذروته في المشهد الأخير، كذلك فإن ثمة تحريضاً آخر يأتي من خارج المشهد، يستخدم المخرج الهاتف في رسائل تحريضية حاسمة تأتي من بعيد، توجه بأسلوب الأمر العسكري المباشر، تأمر الشقيق بتنفيذ جريمة القتل، في حين يبرز المشهد التحريضي مشاعر الحزن والحيرة على الشقيق، وهو إحساس داخلي بالرفض، ينجح الفنان والمخرج في إظهاره، لكن قوة التحريض تنجح وتنتصر لتدفع بالشقيق بعد تردد قصير إلى طعن شقيقته بحركة مفاجئة صادقة. هنا يلمح المخرج إلى أن عملية القتل هي اندفاع يمليه الكبار والتقاليد، وهي بؤرة العمل برمته، لم تأت إلا بعد موجة شديدة من التعنيف والوعيد بالاحتقار. ثم ان عبارات التحريض لا تتوجه مباشرة إلى علاقة الحب التي ربطت الفتاة المهاجرة بشاب غريب، وإنما جاء التحريض على شكل أسئلة مريرة من قبيل، ماذا سيكون وضعنا أمام الناس؟ كيف نواجههم وما الذي سيقولونه عنا؟ أما الأخ الشاب فلم يلعب سوى دور الناقل للإدانة والترهيب إلى الفتاة.
المشهد التحريضي هو من أصعب مشاهد المسرحية وأقساها ضغطاً وزعيقاً، وهو مشهد واضح ومنظم تماماً بهدف الوصول إلى فعل الانتقام في تصعيد مستقيم وزمن قصير. هذا ما نجحت المسرحية في إيصاله.
الديكور هو أول عنصر ملموس في المسرح يملأ البصر، وتُكمل الموسيقى صنع الصور للحواس، خصوصاً في الأعمال المسرحية التي شاهدناها في بغداد خلال فترة السبعينات، مثل مسرحية (بغداد الأزل بين الجد والهزل) ومسرحية (الحصار) وكذلك (الدبخانة) و(البستوكة) وغيرها. المخرج اياد حامد هو أحد تلاميذ ذلك الجيل المبدع الذي صنع وقدم تلك الدراما الحافلة بالحياة، الحاضرة في أذهاننا من فترة كان المسرح العراقي في أنصع درجات تألقه. أما في هذا العمل فيسجل المخرج أول تمرد على عنصر الديكور بإلغائه. لماذا؟
يجيب الدكتور اياد حامد بالقول: إنه الميل إلى وجهة نظر (بيرغمان) القائلة: ليكون هناك مسرح، نحتاج إلى ثلاثة عناصر فقط، وهي النص، الممثل والجمهور.
النص كان للدراماتورغ السويدية (سيسيليا بيرشون) مكتوب بلغة سويدية عالية التقنية. لكن النص لم يكن وحده الأساس في العمل.
الجمهور الذي خرج بعد العرض بين مبارك ومتحمس للعمل وبين محتج ومتذمر من فكرته، أو محايد متفهم للفكرة، لم يكن جمهوراً عادياً. فهو إضافة إلى الآباء والأمهات، خليط من مهاجرين عرب وغيرهم، بينهم مسرحيون وتشكيليون وأدباء وصحافيون، ومن سويديين، فنانين ومثقفين وتربويين وإداريين في دائرة الهجرة ودوائر البلديات. الجميع تسلم الرسالة برضا أو تذمر.
لعبت الإضاءة دوراً مهماً في هذا العمل في تغطية المشهد ومتابعة حركة الممثلين وحواراتهم، وتجسيد جو المشهد واقعياً كان أم حُلُمياً، هادئاً أم صاخباً أم متوتراً، ثنائياً أم جماعياً، إن الممثلين هم الفتيان الخمسة ومثلهم من الفتيات الذين يصعب تأطير نشاطهم وحماسهم وفتوتهم في مشاهد مركزة وتصعب ملاحقتهم ببقع الضوء في مسرح معتم تماماً، لابد أن تكون للإضاءة استجابة بقدر نشاطهم، أي لابد للإضاءة أن تمثل بدورها.
أما الموسيقى، فقد اختار الفنان (أحماديوس) أي أثر سيتركه العمل؟
قبل ذلك من المهم الإشارة إلى تعامل المخرج مع الديكور بأسلوب الإلغاء، فلدى المخرج هدف عملي إضافة إلى هدفه الفني الذي أشار إليه عبر ميله لرأي بيرغمان في التركيز على مثلث الممثل، الجمهور، النص. الهدف العملي هو سهولة حركة الفرقة في تنقلها في المدن السويدية، حيث تم العرض في ثلاث بلديات، وهناك سبع بلديات أخرى تناقش دعوة الفرقة لتقديم العرض على مسارحها.