مشاهد / الحريق الأول لوصف مصر
1 يناير 1970
06:53 ص
| يوسف القعيد |
لا يتصور أحد.. أن الحريق الذي تم في نوفمبر الماضي للأثر النفيس المسمى «كتاب وصف مصر»، كان الأول من نوعه، بالرغم من أنه كان حدثا مدويا اهتزت** له أركان النخبة وبكينا على الكتاب ولانزال نقرأ كل صباح في صحفنا - بالتحديد في صفحات الحوادث والجرائم - عن ضبط شخص ما... يبيع بعض الكتب الثمينة التي تم نهبها من مكتبة المجمع العلمي وقت إحراق المجمع وما فيه من كتب.
أيضا تحمل لنا الأخبار إلقاء القبض على فلان أو علان، ممن شاركوا في حرق المجمع. لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. فلا نعرف ماذا قالوا في التحقيقات؟ وما هي اعترافاتهم؟ وما هو الدور الذي قاموا به؟ وأيضا وهذا هو الأهم متى تنتهي التحقيقات الأولية حتى تحال القضية للقضاء ويقف في القفص أمامنا من أحرقوا تراثنا ومن بددوا ثرواتنا التي لا تقدر بمال.. لنذهب ونشاهدهم ونعرف منهم من الذي دفعهم لهذا الفعل الذي تعجز الكلمات عن وصفه؟ لأنه اغتيال لماضي مصر.
وإذا عرفنا أن الماضي أمجد ما تمتلكه مصر.. وأهم ما تباهي به الدنيا، فنحن نرى قرننا العشرين وما جرى فيه وسنوات قرننا الحادي والعشرين وما تم خلالها. لذلك فنحن شعب مريض بحالة من النوستالجيا... نبكي على ما فات ونترحم عليه ونراه أعظم بكثير مما نعيشه الآن.
الحريق الأول الذي وقع لكتاب وصف مصر لم يكن حريقا. بمعنى إشعال النار والفرجة عليها وهي تلتهم الكتب. إنه حريق من نوع آخر، ذلك أن هذا الكتاب الذي بكينا عليه ما يقرب من ثلاثة أشهر حتى الآن منذ أن شبت النيران فيه.. لم يترجم بعد إلى اللغة العربية ترجمة كاملة ودقيقة وأمينة.
من باب التذكير فقط أقول: إن نابليون بونابرت عندما وصل إلى مصر سنة 1897 كان معه فريق علمي وأدبي وفني بهدف دراسة أحوال البلاد والعباد وكتابة ما يرونه عنهم وعن حياتهم وعن فنونهم وآدابهم وطريقة حياتهم وطعامهم وملبسهم. بل وحتى أحلامهم التي يحلمونها بالليل.
هذه البعثة العلمية انتهت من كتاب ضخم يقع في 20 مجلدا. تسعة منها عبارة عن كتابة وتدوين. وأحد عشر مجلدا كلها رسومات ومناظر وخرائط وأرقام بيانية. كان هذا هو السفر الجليل الذي سمي: «وصف مصر»، وقد رأيت نسخة منه بأم عينيَّ عندما ذهبت إلى الجمعية المصرية للدراسات التاريخية في ستينيات القرن الماضي، وكانت تقع في شارع جانبي ملاصق للنادي الديبلوماسي الذي يقع عند تقاطع شارعي البستان وسليمان باشا بالقرب من ميدان التحرير.
ظل الكتاب حبيسا ومنفيا في اللغة الفرنسية. طبعت منه طبعة إمبراطورية في أيام نابليون. وقيل إنه توجد منه تسع نسخ في مصر التي حرقت أجزاء منها في حريق المجمع العلمي- كانت النسخة الأولى من بينها- ثم طبعت منه طبعات كثيرة، لكن للأسف الشديد بالرغم من مرور أكثر من قرنين من الزمان على صدور كتاب في شكله النهائي. لم تتم ترجمته كاملا إلى اللغة العربية.
لا يتهمني أحد بالمبالغة. فعدم ترجمة هذا السفر الجليل جريمة بجميع المقاييس. من باب الذكرى فقط أقول إن زميلنا وابن جيلنا وصديق أعمارنا زهير الشايب حاول بجهد فردي أكملته ابنته أمل بعد رحيله. حاول ترجمة هذا الكتاب، وقد ترجم فعلا بعض فصوله معتمدا على نفسه وعلى إمكاناته الشخصية، وأصدرت مكتبة مدبولي في أيام عزها وإبان مجدها.. أيام الحاج محمد مدبولي- رحمه الله رحمة واسعة- طبعات من هذه الترجمة وكررتها أكثر من مرة عندما نفدت من الأسواق.
للحقيقة فقط أقول إن الدكتور عز الدين إسماعيل عندما تولى رئاسة الهيئة المصرية العامة للكتاب بعد استشهاد صلاح عبد الصبور رئيس الهيئة في حكاية لا أحب التوقف أمامها لأنها ستأخذني بعيدا عما أنا بصدده.
عز الدين إسماعيل.. فكر جديا في ترجمة هذا العمل الكبير إلى اللغة العربية، ولأنه اكتشف أن الهيئة العامة للكتاب بإمكاناتها.. قد لا تكون مؤهلة للقيام بدور بهذه الضخامة. فقد سعى لتأسيس شكل ما يتولى ترجمة الكتاب وطباعته وإصداره وإعادة إصدار طبعات جديدة منه بعد أن ينفد.
يومها وأرجو أن تكون عندي شجاعة الاعتراف وقفنا ضد مشروع عز الدين إسماعيل... لأسباب عاطفية وجيلية وإنسانية ومصرية أيضا. طالبنا بإكمال أو استكمال مشروع زهير الشايب بدلا من اعتباره وكأنه لم يكن، وأذكر أنه جرت مناقشة بيني وبين عز الدين إسماعيل في مكتبه بعد أن كتبت معترضا على مشروعه واقفا بجوار ما قام به زهير الشايب.
ما قاله عز الدين إسماعيل كان منطقيا وعلميا وحضاريا... لكني كنت محملا أثناء النقاش بقصة استشهاد آخر. وقعت لزهير الشايب بعد سفره إلى سلطنة عمان للعمل فيها بعد أن ضاقت أمامه في مصر جميع سبل العمل والرزق والعيش. ولم نصل لنقطة وسط يمكن أن نتفق عليها. لم أكن وحدي الذي اعترض على قرار الدكتور عزالدين. بل إن جمهرة المثقفين كلهم وقفوا مع فكرة استكمال مشروع زهير الشايب.
ثم عرفت مصر مشروعات للترجمة. قبل محاولة عز الدين إسماعيل... كان لدينا مشروع الألف كتاب الأول... ثم بعد تفكير عز الدين إسماعيل أصبح لدينا مشروع الألف كتاب الثاني.. الذي بدأه سمير سرحان في هيئة الكتاب، ثم المشروع القومي للترجمة الذي بدأه الدكتور جابر عصفور في المجلس الأعلى للثقافة وبعد ذلك تم إنشاء المجلس القومي للترجمة بدعم واضح من الدولة وبإمكانات غير محدودة، ثم إن هيئة الآثار كانت معنية بنشر الكتب تأليفا وترجمة.
كانت هناك مشروعات أخرى للترجمة تولتها السفارة الفرنسية ودور نشر خاصة كثيرة مثل دار شرقيات ودار ميريت. ومع هذا لم يفكر أحد في ترجمة كاملة ودقيقة لكتاب وصف مصر. إلا يعد ترك الكتاب في منفى اللغة الفرنسية حريقا أولا له؟! وبعد الحريق الثاني لم يفكر أحد على الإطلاق في ترجمة هذا الكتاب إلى اللغة العربية.
كتابتي لا تقلل أبدا من الجهد العظيم الذي قام به زهير الشايب وحاولت أسرته استكماله. لكن جهود الأفراد لا يمكن أن تسد النقص في مواجهة مثل هذا العمل الضخم والكبير.