أكذب على نفسي إن قلت إنني استطيع أن اصف مشاعري تجاه أغلى ما في حياتي والسر الدفين في الوجود والخلق، ألا وهي «أمي»، ذلك الإنسان الطاهر الذي أودع الخالق سبحانه فيه أسرار الكون وجعله رمزا للعطاء الذي لا نهاية له، والحب الذي لا انقطاع فيه، والحنان الذي لا كدر فيه، والتضحية التي لا تتوقف عند حد.
لقد كانت أمي بالنسبة لي هي العين التي أبصر بها والقلب الذي ينبض بالحياة والنَفَس الذي اتنفسه، والملاك الطاهر الذي يؤانسني في وحشتي فمنذ ان تفتحت عيناي على الحياة وأنا اراها وأشعر بمشاعرها وأتعلم في مدرسة الحياة على يدها، لقد كانت أمية لا تقرأ ولا تكتب ولكنها علمتني دروسا في الحياة لا أنساها وأبوابا من الحكمة... لم يعلمني أحد سواها.
لقد علمتني كيف يكرس الانسان حياته من أجل من يحب دون ان يبقي لنفسه مساحة لحاجاته ورغباته، لقد علمتني كيف يعيش الانسان حياة متواضعة بسيطة بينما ترى بنات جنسها يتسابقن على حطام الدنيا ومغريات الحياة، لقد علمتني كيف يكسب الانسان قلوب الجميع بحسن خلقه ولطيف معشره ولا يكون له عدو واحد.
لا انسى عندما كنت في فترة امتحانات الثانوية العامة كيف كنت اطلب منها ايقاظي في منتصف الليل لتصنع لي الشاي والقهوة وتؤانسني في مذاكرتي، ولا أنسى عندما سافرت للدراسة في الخارج سنين طويلة وقد كنت اظن بانها ستنشغل بما عندها من أشغال وتربية ابناء تلهو بها عن ذكري، لكن بعض اقاربي اخبرني بانها كانت تحتفظ بصورتي وتطالعها كل يوم، وبانها كانت تستمع إلى أغنية (على سلم الطائرة، بكيت غصبا بكيت)، ثم تبكي، ومع ان لي ستة أشقاء وشقيقات منها لكن كل منا كان له اعظم النصيب من حبها وحنانها دون تفرقة.
كبرنا وتزوجنا وأنجبنا، لكن حبها لنا لم يتغير بل انتقل إلى ازواجنا وابنائنا وكانت إلى اخر يوم من حياتها تسألني عن كل ابن من ابنائي وحفيد من احفادي.
كنت اذا سافرت حتى السفرة القصيرة لا يهدأ لها بال حتى اصل وأذهب للسلام عليها، وعندما تراني بعد الوصول يتهلل وجهها بابتسامة الفرحة الغامرة التي تترجم حبا حقيقيا لم اره في حياتي ابدا ولا اعتقد باني سأراه.
لم تجمع في خزانتها نقودا بل تنفق كل ما تحصل عليه على البيت، ولم تطلب منا يوما شيئا، بل كانت تتحامل على نفسها حين المرض ولا تكلفنا عناء نقلها إلى المستشفى.
لطالما غضب عليّ الرجال من اسرتي بسبب شقاوتي عندما كنت طفلا، فكانت تخفيني عن انظارهم حتى لا يضربوني وتدافع عني.
عندما ودعتها الوداع الاخير وواريت جثمانها الثرى، أحسست بانني قد أصبحت جسدا بلا روح وبأن أعظم سر من اسرار سعادتي في الحياة قد انطفأ، ولولا يقيني بان ما عند الله تعالى خير لها وابقى لما توقف حزني عليها وتذكرت كلام الخنساء في وصف حزنها على اخيها صخر:
يذكرني طلوع الشمس صخر
وأذكره عند كل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حولي
على إخوانهم لقتلت نفسي
رحمك الله تعالى يا أمي واسكنك فسيح جناته.
د. وائل الحساوي
[email protected]< p>