حوار / الشاعر اللبناني اسكندر حبش: لا نكتب... إلا موتنا ورحيلنا

1 يناير 1970 06:28 م
| بيروت - من محمد دياب |

في مساء بيروتي غير عادي، وبعد نهار مليء بالأحداث التي لا باتت لا تنتهي هنا، ذهبت لمقابلته كي أختم نهاري بالشعر علّ الليل البيروتي يصبح «مسكاً» اذا ما لامسته يد الشعر.

على الطريق، في شارع الحمرا الذي احتضن معظم شعراء الوطن العربي، كنت أحاول أن أحتمي من المطر ويراودنني الذين غادروا، أحاول استعادتهم وتذكر شكلهم ولكن الغيابات كانت أقسى من الذاكرة، وصلت الى المقهى المعد للقاء. صوت فيروز يصدح بالمكان، وكان هو يجلس على البار يشرب قهوته ويتكئ رأسه بكامل ثقاه على يده. منهكاً بدا، خلف الزجاج الذي يغلف عينيه تبدو سنوات من الغياب حاضرة، وكأن كل «الذين غادروا» يجلسون بقربه، ولكنه يبتسم يمازح النادل حيناً، ويريح يده حيناً آخر، فيصبح خشب البار وسادة لرأسه. هو من تلك البلاد التي ليست سوى اسم لم يعد موجوداً، يقاوم الوردة التي يجب عليه أن يدعها تذبل في داخله، يتذكر الألم الذي يكتبه، متهيباً أن يغادره الشاعر اذا ما أتى الشعر. أبدأ بطرح الأسئلة ويبدأ بالتفكير أو بالتنهد، سنوات قاسية جعلته يتنهد كثيراً كما جعلته شاعراً يمارس نصه في تفاصيل الحياة اليومية، يلملم الحزن من حوله ويدخله دفتي كتاب يأويه من النسيان ويتابع مزاحه مع النادل.

انه اسكندر حبش، شاعر لبناني وناقد أدبي و يعد واحداً من أهم المترجمين للأدب العالمي بشكل عام وللفرنسي بشكل خاص على الساحة الثقافية. وصدر له اخيرا ديوان شعري جديد هو السادس له بعنوان «الذين غادروا» صادر عن «دار النهضة العربية» في بيروت. حول «الذين غادروا» كان هذا الحوار مع الشاعر والناقد اسكندر حبش:

• غبت عن نشر قصائدك طويلاً، ما هو السبب؟ وكيف كانت عودتك بعد هذه الهجرة الطويلة؟

- ما من مرة في حياتي أحسست بأني على عجلة في نشر قصائدي، كنت أفرد دائماً مساحة زمنية طويلة لكل ما أكتب. مساحة زمنية تجعلني أعيد التفكير بكل شيء، بدءا من الكتابة بطبيعة الحال. ربما، من هذا الحيّز، كان هذا الغياب والابتعاد. لكنّ الغياب عن النشر لا يعني بتاتاً الغياب عن الكتابة. في السنوات الأخيرة كتبت كثيراً لكنني لم أنشر لأسباب عدة، منها ما ذكرت ومنها ضجري المزمن من غالبية ما أقرأه. أعتقد أن الكتابة هي القدرة على ما تمحوه من القصيدة لا ما تضيفه اليها، ازاء ذلك كله كنت غالباً ما أعيد حساباتي وغالباً ما أعيد قراءتي لقصائدي. حتى نشر هذا الكتاب الأخير لم يكن ليتحقق لولا اصرار الصديقة لينا كريدية صاحبة «دار النهضة العربية» على أن تنشر لي مجموعة جديدة، أي لو تركت الأمور لرغبتي الداخلية، الدفينة واللاواعية، لربما استمر الصمت لسنوات أخرى. لاستمر الكسل المزمن الى ما لا نهاية.

• من هم «الذين غادروا» والذي عَنونت كتابك بغيابهم؟

- غالبا ما يقال ان الشاعر لا يستطيع الحديث عن كتابته. ومع ذلك نجد أنفسنا مضطرين للقيام بذلك. في أي حال، سأحاول القول ان هذا الكتاب قد ولد من غيابات عديدة، والغياب هنا لا يعني الموت حصرياً، بل هو رحيل أيضاً وانكفاء ومغادرة.

• ما حاولته... على الأقل هذا ما أستطيع أن أدعيه، هو استحضار أشخاص ومدن وذكريات. هناك امرأة كانت تسكنني وغادرت، لذلك قصائد القسم الأول مكتوبة لاستحضار هذه الذكرى.

- في القسم الثاني أيضاً ثمة مدينة سكنتها وامرأة سكنتني تعودان لتحضرا بين الكلمات. أما القسم الثالث فهو قصيدة طويلة فيها مساءلة عن الموت وعن معناه من خلال استحضار صورة صديق راحل قتل هو «سمير قصير». والرابع لا يشذ عن هذا المناخ.

أعتقد أن كلّ ما نفعله حين نكتب هو استحضار روح الفقدان التي عرفناها والتي عشناها خلال حيواتنا الماضية، لذلك لا نستطيع الا أن ندعي بأن الكتابة هي تأريخ لتاريخ شخصي مضى وليس لمستقبل سيأتي. صودف أن هذا التأريخ كان في هذا الكتاب يستدعي الغياب، يستدعي المغادرة، لأن الكائن لا بد أن يجد أجزاءه وهي تمضي وتغادر بدورها كل يوم. هل يعني هذا أن الكتابة، تبدو في العمق، وكأنها أشبه بمرثاة ذاتية؟ بالتأكيد نحن لا نكتب الا موتنا ورحيلنا وغيابنا. فكل لحظة تمرّ تقربنا الى آخر الرحلة، ونظن أن الكلمات تستطيع شيئا، لكنها في الواقع، لا تفعل شيئا الا زيادة الاسراع في هذه الرحلة.

• الديوان مليء بالأسئلة التي تحمل الطابع الشخصي. هل أجابك الشعر عن هذه الأسئلة ولماذا تطرحها؟

- أعتقد أننا في أحيان كثيرة نُحمّل الشعر أكثر ممّا يستطيع. لا أظن أن الكتابة تستطيع أن تجد الاجابات الواضحة عن أي تساؤل. كلّ ما تستطيعه الكتابة مراكمة طبقات من الأسئلة فوق بعضها البعض، من هذه النقطة كلّ الأسئلة تبدو محض شخصية ولا مجال للعام الا في جزيئيات الخاص. ازاء ذلك، لا بدّ أن يُطرح سؤال حول معنى الكتابة عندئذ ولأحاول أن أدعي اجابة عن هذا، كانت الكتابة بالنسبة اليّ دائماً محاولةً لايجاد توازن شخصي داخلي. أعتقد أن جزءاً من هذه الفكرة لا يزال يُسيرني ولكني أكتب أيضاً لأنني لا أملك الا أن أطرح المزيد من الأسئلة على نفسي، حتى من دون انتظار جواب. بالأحرى حتى من دون ايجاده لأني بالتأكيد لا أملك أي واحد منها.

• كيف يمكن للأيام أن تغادر؟ وما الذي تأخذه معها حين تغادر؟ وهل من شيء استعدته بالشعر بعد مغادرتها؟

- لا تستطيع أن تستعيد سوى حرقة الذكرى. ما يغادرنا هو وجودها المادي الآني، لكن بالتأكيد تبقي عندنا ذلك الانشداه وذلك التمسك بلحظات كانت عليها.

ظن بأن الكتابة بأكملها ما هي الا هذه المحاولة «البروستية» (من مارسيل بروست الكاتب الفرنسي) في «البحث عن الزمن الضائع».

حين يبدأ المرء بالتقدم في سنواته يبدأ الاحساس بأن ثمة الكثير مما فقده وممّا غادره، لذلك يحاول في كتابته أن يقنع نفسه بأن الكلمات قد تعيد اليه ما مضى. هل ينجح بذلك؟ ليس الأمر برمته سوى «قبض ريح».

• ما هي البلاد ان لم تكن سوى اسم لم يعد موجوداً؟ أما من ضرورة للانتماء؟

- اذا كان السؤال يحدد الانتماء بحيّز جغرافي معين وبثقافة معينة، وبلغة معينة. فأنا أشعر بأن هذا الأمر لا يعنيني. بمعنى أنني أشعر بانتمائي الى ثقافات عدة، وبلدان عدة، وأفكار عدة. ما أريد قوله ان هذه الفكرة القومية غالباً ما أحسبها نزعة فاشية.

على الثقافة أن تكون أوسع من ذلك، صحيح أنها تنطلق من الجزئية الخاصة لكن عليها أن تصل الى الجزئية العامة.

لا أتحدث هنا عن العولمة بمعناها السياسي ولكن أظن أننا نستطيع أن نتحدث عن عولمة ثقافية قربت الناس من بعضها البعض. أظن أن كل محاولة للحديث عن خاصية قومية معينة تسقطنا في حيز ضيق على غير تماس مع الآخر. لا أظن أنه يجب استعادة « الجحيم هم الآخرون» بحرفيتها بل على العكس علينا أن نفسح مجالاً للذهاب الى هذا الآخر، على الأقل هذا ما أشعر به لا بل هذا ما أتمناه.

أنا شخص ولد من هجرات متعددة، وجنسيات مختلفة، واختياري الكتابة بالعربية كان فعلاً ارادياً واعياً لذلك أشعر بأن ثمة الكثير من العوالم تسكنني وتشكلني ولا أرغب في تفضيل عالم على آخر. ولا تفضيل انسان على آخر. اذاً هو هذا الحس الانساني الجامع الذي أفرد له المساحة الكبرى في كتابتي، لأنه الجانب الأكبر الذي تولد من ثقافتي الحياتية قبل أن يتأتى من ثقافتي العقلانية.

• هل غادرك الشاعر في لحظات شعرية؟

أحاول ألا يهجرني.

اذا قصدت بالمغادرة توقفي، في لحظات، عن الكتابة سأوافق على الأمر. ولكن في العمق أعتقد أن الشعر ليس في الكتابة فقط بل هو مشروع حياة وأنا حين لا أكتب القصيدة أحاول الادعاء بأني أعيشها.

هناك ليل كثيف يغلف قصيدتك، هل يرتبط الليل بالغياب؟ أم أنه يرتبط بك بشكل شخصي لتأخذ القصيدة شكلها؟

اذا جاز لي الحديث عن نفسي سأقول بأني كائن ليلي، أحب أن أقضي النهار نائماً بينما أحب أن أبقى يقظاً في الليل، من هنا يشكل الليل - كحالة مادية - جزءاً من تكويني العصبي والجسدي. هذا أولاً. أما من ناحية ثانية، يأخذ الليل، عندي، شكل الاستعارة للدلالة على هذه الغيابات التي عشتها، مع غياب أصدقاء وصديقات، مع غياب مدن وبلاد كانت لي، بالمعنى المجازي مثلما كانت لعائلتيَّ (على المستوى المادي).أي كما قلت للتو، ولدت من هجرات عديدة.

أعتقد أن الكتابة ليست الأحرف السوداء على بياض الورق، بل هي الثلج الأبيض الذي يتساقط في ليل الأزمنة والذي يحاول أن يصعدج على صفحة الليل الغامق. من هنا لنحاول تخيل المشهد: صفحتي هي الليل وما أكتبه هو هذا الثلج الأبيض الذي قد لا يراه أحد.

• ما هو الألم الذي يكتبه اسكندر حبش في قصائده؟

حقاً لا أعرف ان كنت أكتب الألم، أو ان كنت أبحث عن ذلك عمدا. بيد أني وعيت على الدنيا على حكايات جدتيَّ اللتين كانتا تتذكران بلديهما البعيدتين، بالتأكيد كان ثمة حزن في حديثيهما. و حين وصلت الى مراهقتي بدأت أفقد أصدقائي، واحداً وراء الآخر منهم من قتل في الحرب ومنهم من غادر الى غير رجعة. شئنا أم أبينا نحن أبناء سيرتنا وحين تكتب لا تستطيع الا أن تكتب سيرتك لأنك تظن أنها السيرة الوحيدة التي تعرفها. هذا ما أعرفه وهذه هي سيرتي، وهذه هي كتابتي.

• اسكندر حبش هل ذبلت الوردة التي فيك؟

(يبدأ مكبر الصوت بتوزيع أغنية على مسامعنا تقول «زَهَّر الورد» يتنهد اسكندر وسألني ان كنت لا حظت ماذا تقول الأغنية ويجيب)

في هذه اللحظة بالذات أستطيع القول أنها ذبلت. لا أستطيع الا أن أتذكر الحروب التي عشتها والتي زارتني. لكن بعيداً عن أسطورة طائر الفينيق، وعن رماده، أحاول أن أستمر بالحياة لا لشيء الا لأرى نهاية القصة.

• كيف تقيم مستوى حركة الشعر في لبنان في ظل ظهور جيل جديد ونشر العديد من الأعمال؟

على العكس من النغمة السائدة والتي تتحدث عن موت الشعر أرى بأن هذه اللحظة الراهنة، هي أجمل لحظات الشعر في العالم، لأن الشعر لم يعد موجوداً الا لصالح الشعر. أي لم نعد نبحث عن مسوغات من خلاله. هناك جيل جديد بدأ يظهر، وأخصص الحديث عن هذا الجيل في لبنان الذي يأتي الى القصيدة متخلياً عن كل الأيديولوجيات والأفكار التي عرفها الشعر العربي مع بداية حركة الحداثة. وليس هذا معناه أن ليس هناك من أجيال عربية أخرى بل على العكس، بيد أني أتحدث عن لبنان لتضييق المساحة الجغرافية حتى لا نذهب في التعميم.

هناك أصوات جميلة جداً، ولكن هناك أيضاً أصوات يجب أن نطرح تساؤلاً حولها. على الأقل لأن بعضها يأتي من جهل في الكتابة وأقصد بالجهل عدم درايةٍ لا باللغة بل عدم درايةٍ بمتطلبات القصيدة اذا جاز التعبير. على أي حال الأصوات الجيدة أكثر من الأصوات الرديئة، وهي أصوات تعلمنا حياة مختلفة ومفاهيم أخرى الأهم في الشعر أن نتعلم من الذين يأتون بعدنا لا من الذين أتوا قبلنا.