قصة قصيرة / لم تك دمية يا أمي

1 يناير 1970 10:08 م
| محمد سامي البوهي | كنت ادخر لها من مصروفي اليومي تحت وسادتي لأكون أول من يشتري لها لعبة... وعدتني أمي قبل مغادرتها بأنها ستعود بها بعد ساعات قليلة، مسحت على شعري وابتسمت ثم قبلتني ورحلت معهم.

- هل تظن عندما تقبلك أمك وتبتسم بأنها ستنفذ وعدها؟!

- بالطبع لم أفكر في تلك الأشياء العظيمة، ولم يطرأ على بالي للحظة واحدة أنها لن تعود، فقط كنت أنتظر... كنت أفكر في أمر اللعبة التي سأشتريها، عروساً أم قطاراً أم ماذا؟ لا أعلم ما الذي تفضله هي حتى الآن... هي لم تخبرني عن ذلك بعد... أخرجت النقود وشردت بعيداً عند وجه أمي الذي لم يغادرني أبداً، لم يكن قلبي مطمئناً لأن الحلم عندما يرحل عنك ليعود حقيقة يحتاج الى يقين تبحث عنه كثيراً كما تبحث عن لعبتك الضائعة.

... لم تعد أمي بعد

أنا من ذهبت اليها حاملاً على صدري دمية ضخمة أخفاها لي البائع في ورق الهدايا، لن أخبركم عنها الآن، ولا يحاول أحد منكم فتحها أبداً كما فعلت تلك الممرضة اللعينة عندما صرخت في وجهها بأن تتركني وشأني،كانت أمي ممدة على السرير، وقد غرسوا بعروقها ابرة طويلة مغطاة بشريط من «البلاستر» الأبيض، حيث انتهى بها «دريب الجلوكوز» المعلق جوارها على حامل حديدي - هو شيء مخيف اذاً - أفلت يدي من قبضة أبي راكضاً نحوها، ارتميت في حضنها باكياً، في تلك اللحظة نسيت كل شيء أتيت من أجله..وتركت الدمية... نسيت الدمية.

أخبرتني أمي أنها في «حضّانة رعاية الأطفال» وستخرج قريباً، فكان علي أن أحتفظ بدميتها بضعة أيام أخرى، سألتها عن شكلها، عن ملامحها عن كل شيء... تشبهني حقاً كما قال أبي؟ فابتسمت قائلة: عندما تراها عليك أن تقرر أنت! شعرت بمسؤولية كبيرة ألقتها على عاتقي، ومهمة صعبة ربما تحتاج مني مجهوداً كبيراً يفوق هذا المجهود الذي أبذله في حمل دميتها، لكني كنت أعيش الأمل والانتظار اللذيذ، فلا أنام، وأجلس في ركن قصي أنتظر الشمس أن تشرق بيوم جديد، وألف سؤال وسؤال... لا أخجل من طرح الأسئلة أبداً حتى المحرجة منها لكني لا أتلقى اجابات ترضيني... فأذهب بعيداً جوار الجدار أحدث نفسي، وأستلقي أمام لعبي المتناثرة، و أنتظر من يشاركني اللعب.

عدت لأحمل دميتها على صدري عندما اصطحبني أبي معه لتسلمها من «الحضّانة» حسب الموعد المحدد، انفتح الباب الزجاجي فشعرت ببرودة منعشة، عبرنا الممر الممتلئ بتابلوهات الأطفال، حتى وصلنا الى غرفة الطبيب، ألقى عليه أبي التحية، ثم ناوله الأوراق التي كانت بيده، فقلبها الطبيب يميناً ويساراً بعد أن اطلع على دفتر ضخم على المكتب أمامه، نظر اليّ نظرة بدت غريبة، ثم راح يسجل بقلمه بعض كلمات على الأوراق ثم ردها لأبي مرة أخرى قائلاً له بلهجة حزينة «البقاء لله... المولودة توفيت»، أحنى أبي رأسه على صدره ثم تركه وانصرف... ظللت أطرح عليه الأسئلة فرحاناً باقتراب اللحظة التي سألقي بها بتلك الدمية من على صدري... لكنه وقف محتاراً ينظر هنا وهناك..قبض على يدي ثم جثا على قدميه أمامي، ومسح على شعري قائلاً بلهجة متألمة: «ربنا أخدها عنده في السما» هي لم تأت بعد حتى تصعد الى السماء، الكبار وحدهم من يصعدون الى السماء... أما الصغار فمكانهم هنا على تلك الأرض.

لم أفهم معنى الكلمة «مشرحة!» حينما يهمهم بها أبي كلما قابله أحدهم ليدله على الطريق... شعرت أن الدمية أصبحت ثقلاً كبيراً يرهقني... فألقيتها على الأرض وظللت أجرجرها خلفي وأنا أجذبها من طرف الشريط اللامع المحيط بها حتى دخلنا الى هناك..الى تلك الساحة الشاسعة... وسرت خلفه في المدق الترابي الطويل وسط أكوام القمامة المحترقة، حتى انتهى بنا الى المبنى القديم المتهالك... أترقد أختي هنا؟ لم يكن المشهد بعيداً بل ظل يقف أمامي كما أعينكم تلك التي تقرأ هذا النص في التو واللحظة... لم أصدم أبداً... لم أرتجف... أو أطلب من بي العودة الى الخلف، بل كنت أسير خلفه بكل قوة لا تفرقني عنه الا خطوات قليلة... أقل من ساقيه الطويلتين بقدر ضئيل... انفتح الباب الحديدي المغلق بعد دقات قليلة نقرها عليه... لم أر الا أصابع الرجل المطاطية البيضاء حينما ناوله أبي الأوراق التي كانت بيده... نظرت الى مروحة التهوية الضخمة التي تتوسط الجدار المواجه، والى الصناديق البلاستيكية المغلقة المصفوفة على الطاولة الممتدة حتى نهاية الغرفة. والى الرجل الذي مازال يبحث عن؟؟ عنها بكل تأكيد - أعلم ذلك جيداً - لكني لم أكن أعلم أنه سيتوقف أمام هذا الصندوق ويجذب ذراعها بقوة لتخرج من بين قطع الثلج وتنظر اليّ وتبتسم... أفلت شريط الدمية من يدي... أجهشت بالبكاء.



* كاتب وناقد مصري

[email protected]