ملامح / في المقهى

1 يناير 1970 04:35 م
| د. عالية شعيب |

في كافتريا الريتز، وحيدةٌ بمرارة ذلك الصباح. وبحر لم يعد يعرِفني ولهاث السيارات -في وطني الكسيح التائه- نحو العدم/ الوهم، نحو السخافة والسذاجة والتفاهة.

أجِدُني

أتخيل أن هذه الكأس هي جنتي، وأن هذا الماء هو مِسْك يهطل على قلبي فـيروي حنينا جارفا لك. أتخيل أن عنق الكأس الرقيقة هي الجسر بيني و... بيني، كم... كم أحتاجني. قاعدته المتماوجة -كألوان روحي تلك اللحظة- كحقولٌ بيضاء رمادية عمياء بكماء صماء خرساء، تُمسِك بيدي لأعبرَ بسلامٍ نحو ذاتي.

جرّدتني من نفسي،

غرّبتني عنها، فلم أعد أعرفني الا من خلالك.

ما أجمل هذه الغربة وما أغربها!

أنتَ يا هذا المدى المضيء بخضرته بكُحلِه

بسواده

بأبيضه.

وأنا زُرقة السماء التي تُسقِف زمرد الأحلام وماس السقوط، ذهب الصعود ونحاس النشوة ثم برد زجاج الرعشة وأزرق البلل، وأخيرا العودة الى فردة حذاء هنا وأخرى هناك.

أتخيل أن مسباح أبي الذي كان مشنوقا على أعمدة سريره النحاسي هو أغلى وأعز ما أملك على الاطلاق. كان كل ما هنالك، كل ما تبقى لي من غرفته الحارة النابضة بموته. حين هرعت ولم أجد سوى تجاعيد رائحته ونبض حرارة افتقاده لي وندمي. آآآآآه وتأخري المرير، سكين تطعنني كل لحظة لآخر العمر... وما بعده. أتخيل أن في غشاوة الحلم وأنا بين... بين، محمولةٌ على أرجوحةٍ من ضباب. أراني في ثيابٍ بيضاء، أضعه بين يديك. وأنت بوجهك الملاك، بروحك الشلال، بعقلك الخاص والنادر وبقلبك الفضاء الشاسع، تُغمِض حنانك عليه، تضمّه اليك، تقبّله ثم تمضي. ويبتسم أبي في الصورة المعلّقة أعلى حياتي، يبتسم وتلمع عيناه. ها قد استقرت روحه.

أتخيل أنك في الأبيض السُكري الحالم ذلك الصباح الراعش، الذي سيبقى منقوشا في ذاكرتي حتى آخر الأزمنة وتحولاتها. كنتَ تفيض حضورا وذكاء ومهارة، تفيض جمالا وبهاءً وروعة وقدرة. ياويلي منك... وياويلي من شغفي الجارف بك. كنتَ السحابة والحمامة، كنت الفَرَس والبحر والمطر والبَرَدْ. كنتَ كل ما هو جميل وغريب معا.

كنتَ الذي أحببته منذ سنوات.

كنت الذي تخيلته وتمنّيته منذ عشرات الحيوات... هو نفسه.

أردت أن أقول «أحبُكَ» وشعرت أنه ليس من حقي. أردت أن أنهض، بين طبقات من الغيم الريشي، أطوّقك بخمائل أشجاري وأقول: أحبك أحبك أحبك، حتى تنتهي اللغة ويختفي صوتي ويذبل الوقت ويذوب المكان، وتتلاشى التفاصيل، ونبقى نحن مكاننا هناك:صورة حب خالدة. لكني شعرت أنه ليس من حقي. فلا هذه الحياة حياتي ولا هذه الدنيا دنياي ولا هذا الزمن زماني ولا حتى هذه الجلسة لي ولا هذا الكرسي مكاني. لا أنتَ لي ولا حتى أنا لي، أنا لك.

أتخيل أن أجمل ما بيننا هو تلك الجلسة الصافية. كلامنا تواصلنا نقاشنا حوارنا بوحنا ضحكنا تحليقنا أسرارنا واخلاصنا. يااااه صدق ممتد كالبحر كالأفق كالسماء كالفضاء. حقيقة ثابتة أعرفها وأخافها: أنك نفسي الثانية. كأننا اليد وقفازها، وحبة التمر ونواتها، والثمرة وقشرتها والعين وغشاؤها. أتخيل أني هائمة، غارقة وذائبة فيك. أرتديك كملابسي صباحا، يغسلني حضورك والتفاصيل مساء. يسكنني وجهك كالتلاوة التي حفظتها ورددتها خلف أبي صغيرة. مجنونة أنا بك ومطعونة بفراقنا المحتوم. كالسرطان ينتشر بهدوء وبخبث. يأكلني يلتهمني يعذبني يؤرقني. وكلما أدركت قرب فراقنا كلما زاد احتراقي في محرابك كفراشةٍ تعشق احتراقها في عذوبة الضوء، كعودِ بخور ينذر نفسه ليمنحك طيبه وطيبته. كلما اقترب فراقنا كلما فاضت روحي وحلّقت في ملكوتك فرِحة وحزينة معا، مرِحة ومنكسرة معا. كلما سبحتُ كموجة عنيدة في ضباب وظلام وخباب صدرك العاصف والشديد. ثم غفوت بين يديك متعبة مرهقة منك ومني، كالصورة التي تحفظها في ريش وسادتك وتُلقِمها سحرك ليلا نهارا، وتحبّك أكثر مني. «الا أنتِ» والا هذا العذاب الذي أستعذبه وأستلذّه وأتلذّذ بتجرّعهِ كالسُّم آخذه بارادتي لأعيش التجربة وفرادتها، لأعيش ندرة الحب وحقيقته، لأعيش الحياة بفنّها وتميزها.

أتخيل أن لا شفاء لي، لا ارتواء، لا دواء، لا عزاء، لا مفر، لا مهرب، لا مخرج، لا مناص. منفيّة أنا فيك، منذورة لك سواء كنتَ لي أم لم تكن، سواء كنتُ في قلبك أوْ كانت غيري.

أتخيل أني أعشق الشتاء لأنه جمعنا، وأحب تراكم الغيم حين يسرد قصتنا. وكلما تناولت بلوزتي تلك... أرتعش وقد أبكي. يكفيني من كل هذه الحياة أني أحببتك، ويكفيني الغيم الوردي الذي زرعته في دمي، والقوارب الشراعية المبحرة أبدا في رئتيّ. يكفيني السُكّر الذي نثرته على صباحاتي. وأنك تركت قوس قزح يلوّن حقولا لا متناهية الجمال والبراءة حين نهضتَ، وصار فراغ كرسيّك يشاكسني والهواء المُشبّع بك يداعبني. وعلبة سجائرك الفارغة تطاردني بأحمرها وأبيضها... حتى اللحظة.

يكفيني أنك كنتَ هنا، سيبقى طيفك. كنتُ هنا، سأبقى حبيسة سحر المكان الذي تضوّع وسَكِر بك. أتناثر نجوما مضيئة في عُرسٍ نادر لفن الحياة الصحيحة والأصيلة التي عثرْتُ عليها وعثرَت عليّ معك... وحدك يا أنا.


* من ديوان «عطش» سيصدر قريبا