الحلقة الثانية
صلاح جاهين... العبقري المدهش
1 يناير 1970
01:30 م
| القاهرة ـ من نعمات مجدي |
لم يكن صلاح جاهين - الذي عاش حياة ثرية بين 25 ديسمبر 1930 و21 أبريل 1986 - مجرد فنان متنوع المواهب، لكنه كان ولايزال ـ رغم رحيله منذ 24 عاما ـ عبقريا مدهشاً، وقد لمس** ذلك كل من اقترب منه أو طالع أعماله، شعرا أو رسما أو غناءً أو أفلاما. فكانت مواهبه متدفقة كالشلال الذي لا يوقفه شيء ولم تصبه يوما بالغرور، بل كان بسيطا إلى أقصى حد، فدخل كل بيت وكل قلب، وأبت نفسه التكلف، وعاش دنياه،، ببساطة أخرجت من أعماقه جنّي الشعر ومارد الرسم وفورة الإبداع التي لم يطفئ وهجها سوى نكسة 1967.
وكما كان فارس البسطاء، كان أيضا شاعر ثورة يوليو 1952، ترجم مشاعر وأفراح الملايين من المصريين إلى كلمات حية متوثبة مليئة بالدفء والزهو والنشوة، ولم يكن يكتب شعارات باردة جوفاء بل غاص في أعماق الإنسان المصري المتطلع إلى عالم أفضل ليستخرج منه بكلمات عامية بسيطة وبليغة في آن واحد أجمل ما فيه من أغاني ومزامير لينثر بها البهجة والفرح الحقيقي.
جاهين عبقري مدهش وليس مجرد زجال أو رسام، بل كان مبدعا ورساما ساخرا مدهشا في رسومه وسخريته، كما جاءت رباعياته تأملات كونية لا تقل رغم عاميتها عن تأملات أبي العلاء المعري وعمر الخيام. كما كان عبقريا مدهشا في انشغاله بوطنه وأهله وشعبه، وعبقريا مدهشا في سعادته وفرحه سواء بوطن يحلم ببزوغ فجر طال زمانه أو حتى باكتشاف موهبة شعرية واعدة، وعبقريا مدهشا في علاقاته الإنسانية وصداقاته مثلما كان عبقريا مدهشا في حزنه وانكساره.
عن صلاح جاهين نغوص في حلقات هذه السلسلة لنكتشف عوالمه ونبحر في أعماق شخصيته وإبداعاته المتدفقة من خلال أوراق قديمة وحوارات صحافية أجريت معه وكتابات تناولت أعماله ومسيرته:
فشل في «الحقوق» ورفض رغبة والده
بركان الفن... الذي انفجر
كان إيمان «صلاح جاهين» راسخا بعدم جدوى التعليم بالأساليب التقليدية، ورغبته في دراسة ما يهوى، فكان رفضه الشديد لضغط والديه عليه بدراسة القانون ليكمل مسيرة الوالد المستشار بهجت حلمي الذي تدرج في السلك القضائي حتى عُين رئيسا لمحكمة استئناف المنصورة.
ولكنه انصاع في النهاية لرغبتهما والتحق بكلية الحقوق، وكان من نتيجة عدم رضائه عن الالتحاق بكلية الحقوق أن تعثر في دراسته، حتى أنه قضى في السنة الأولى 3 سنوات متتالية حتى لحقته شقيقته ونجحا معا في السنتين الأولى والثانية.
بركان الفن
لم يستطع صلاح جاهين أن يكبت بركان الفن داخله أكثر من ذلك، فكان رفضه هذه المرة قاطعا لمحاولات والديه إقناعه بالعدول عن قراره، وهو ما أسفر عن مشادة عنيفة بينه وبين والده غادر صلاح جاهين المنزل على إثرها من دون إطلاع أحد على مقصده. فتوجه لـ «بيت الفنانين» بوكالة الغوري، ثم سافر لعمه بغزة، وقضى فترة هناك عاد بعدها إلى القاهرة، حيث قرأ إعلانا عن وظيفة «مصمم مجلات» بالمملكة العربية السعودية، فتقدم لها ثم سافر من دون أن يخبر أحدا، ولم يُعلم والديه إلا بعد سفره بالفعل. ولكنه عاد مرة أخرى لمصر بعد أن تلقى خطابا من والده يحثه فيه على العودة. ورغم التحاق صلاح جاهين بكلية الفنون الجميلة بعد ذلك، فإنه لم يكمل الدراسة بها أيضاً.
أشعاره مُلحَّـنة
من المفارقات أن جاهين ولد في البيت والتوقيت نفسيهما اللذين ولد فيهما الملحن الشهير بليغ حمدي. وعاشا معا السنوات الثلاث الأولى.
والغريب أنّ بليغ لم يلحّن أي أغنية من كلمات صلاح جاهين مطلقا، حتى أنه عندما سألوا جاهين عن سبب ذلك قال مازحا: «شكلي ضربته وأنا صغير ولسه هو شايل في نفسه مني». لكن بليغ قال: أشعار جاهين لا تحتاج إلى تلحين لأنّها «مُلحَّـنة جاهزة».
حتى سن الـ 14، كان جاهين «أخيب تلميذ في الرسم» ـ على حد وصف شقيقته الكبرى بهيجة - لأنه كان يرسم من خياله ولا يلتزم بتعليمات مدرس الرسم. وظلت أزمته مع الرسم قائمة، حتى جاء مدرس جديد «الأستاذ أرناؤوطي، الذي في المنهج المقرر جانبا ولم يفرض على التلاميذ رسم موضوعات الطبيعة الصامتة، التي كان يكرهها التلميذ المتمرد.
بداية التحول الشعري
لا يمكن اختزال صلاح جاهين بقدراته الهائلة ومواهبه المتعددة في كونه مجرد شاعر أو رسام أو كاريكاتير أو مؤلف أغانٍ، حتى لو نصبته ملكا متوجا على كل هذه الفنون؛ لأنه يحمل رؤية فيلسوف كبير تختلف نظرته وتتعمق باتساع موهبته؛ لذلك عندما رحل كان مدينا بألفي جنيه لأنه امتلك ناصية جميع المواهب إلا موهبة جمع المال.
بدأ صلاح جاهين يكتب الشعر الكلاسيكي في أواخر الأربعينات، قبل أن يبلغ العشرين من عمره، حيث قرأ يوما قصيدة بالعامية المصرية لشاعر لم يكن قد سمع به آنذاك، فتوقف عن كتابة الفصحى وقرر التعرف إليه، ولم يكن ذلك الشاعر سوى فؤاد حداد رائد شعر العامية وشاعرها الأول في مصر وصاحب أول ديوان في شعر العامية وهو ديوان «أحرار وراء القضبان».. الذي أثر فيه تأثيرا كبيرا، وجمعته به صداقة عميقة استمرت فيما بعد حين تزوجت أمينة ابنة صلاح جاهين من ابن فؤاد حداد الشاعر أمين فؤاد حداد.
كان جاهين غزيرا في الإنتاج.. لم يتوقف لحظة واحدة طوال حياته عن الإبداع.. كان يحس أن الحياة قصيرة جدا وسريعة.. فدخل في سباق معها فأنجز المئات من القصائد التي تراوحت بين الزجل والشعر العامي والشعر الشعبي، وتحولت إلى أغنيات غناها عشرات المطربين، وكتب ـ أيضا ـ عددا من الأوبريتات الغنائية، ربما كان أشهرها أوبريت الليلة الكبيرة الذي لايزال يحتفظ بألقه حتى اليوم.
الرباعيات
لم يكن صلاح جاهين أول من كتب الرباعيات، فالتاريخ القريب يعرفنا بشعراء أفراد كتبوا الرباعيات لعل من أهمهم بيرم التونسي ورباعياته المنتشرة في معظم دواوينه، ورباعيات الخيام التي أعاد كتابتها الزجال البارع أحمد سليمان حجاب، ورباعيات شعراء شعبيين وزجالين لم يقدر لأشعارهم ولا لأسمائهم الذيوع؛ ثم رباعيات العظيم صلاح جاهين، لذلك فإن القارئ لأشعار جاهين سيجد هيمنة لشكل الرباعية في كثير من أشعاره وأزجاله وأغانيه، عبر ديوان مستقل تحت عنوان «رباعيات».
بساطة وتلقائية
حقق صلاح جاهين في رباعياته ببساطته وتلقائيته التعبير عن كل ما يشغل البسطاء بأسلوب يسهل فهمه واستيعابه، وهو ما جعله فارسا يحلق برسومه وكلماته ويطوف بها بين مختلف طبقات الشعب المصري، بل كانت جواز سفره لمختلف البلدان العربية التي رددت كلماته حَفْزا للعمل والإنجاز، كل ما نبع من صلاح جاهين وما أحاط به كان يؤهله للثراء الفني والإنساني.. بل كان يرشحه ـ أيضا ـ لمعاناة تصنعها نيران الموهبة، وحظي بحب جماهيري جارف فلم تشهد مصر إلا فيما ندر هذه الموهبة المتسعة الأرجاء شعرا ورسما وغناء وتأليفا وتمثيلا.
رباعيات جاهين تحمل بين حروفها حالات نفسية عديدة، توغل فيها دكتور يحيى الرخاوي عالم النفس المصري الشهير، حيث قام في كتابه «رباعيات ورباعيات» بتسليط الأضواء على أعمال جاهين بعمق فريد ممزوج ببصيرة أدبية نفسية قلما وجدت، فاستعرض الأطوار النفسية التي مر بها جاهين من خلال أشعاره، وسندع شعر جاهين وأنوار الرخاوي المسلطة تتكلم وتصف، حيث يقول تحت عنوان شخصية جاهين «الفرحان قباضية».. بين طور الاكتئاب وطور الفرح».
وفي رباعيات جاهين تكاد تظهر جميع أعراض الاكتئاب بلا استثناء من أول عدم الاكتراث والملل، إلى الشعور بالضياع وفقدان المعنى، إلى الإحساس بتغير الكون وتغير الذات، ثم الميل إلى الانتحار أو العجز عن الانتحار. كل ذلك يتتابع في صور -برغم مرارتها- جميلة.. جميلة، حتى تجعلنا نحب ما لا يُحب، أو على الأقل نقترب من صدق معاناة من يعايشها في تعاطف متألم قد يخفف عنه، وقد يشجعنا على خوض ما نخشى، ومن ذلك:
يا حزين يا قمقم جوه بحر الضياع
حزين أنا زيك وإيه مستطاع
الحزين ما بقالهوش جلال يا جدع
الحزن زي البرد زي الصداع
سخرية لاذعة
يظهر أحد أشكال الاكتئاب في شكل الإفراط في السخرية اللاذع ـ بحسب الرخاوي ـ فيسخر صلاح من الطير، ويذكره بالموت الذي ينتظره، كأنه من فرط اكتئابه يرفض أن يرى كائنا حيا مخدوعا بالحياة فيتساءل:
كيف الخلاص؟
شاف الطبيب جرحي وصف لي الأمل
وعطاني منه مقام يا دوب ما اندمل
مجروح جديد يا طبيب وجرحي لهيب
ودواك فرغ مني وإيه العمل؟
ويرد الطبيب
قالي لقيته مختنق بالدموع
ومالوش دوا غير لمسة من إيد حبيب
إهدار دمه
كان صلاح جاهين دائم التمرد والصخب، وكان يمتلك ريشة لاذعة وكمًّا من الكلمات والتعبيرات الصادمة، فكان له في حياته وبعد مماته معارك كثيرة، لعل أشهرها المعركة الغزالية والمعركة البهجورية، حيث اختلف مع الشيخ الغزالي بالكاريكاتور عند مناقشة مشروع الميثاق في العام 1962، فاستباح طلاب الأزهر دمه وتظاهروا وتجمهروا أمام جريدة الأهرام، وكان جاهين قد رسم الشيخ الغزالي وهو يخطب في عدد غفير من الجماهير وكتب «جاهين» على لسان الشيخ الغزالي: «يجب أن نلغي من بلادنا كل القوانين الواردة من الخارج.. كالقانون المدني وقانون الجاذبية الأرضية».< p>< p>