مشاهد / صرخة نملة

1 يناير 1970 03:28 م
| يوسف القعيد |

هذه المرة الأولى التي أذهب فيها لإحدى دور السينما في مدينة نصر... ممارسا هواية عمري الأساسية وهي الذهاب الى دور السينما ومشاهدة الأفلام على الشاشة الفضية الكبيرة، فأنا لا** أعتبر أن مشاهدة فيلم سينمائي من خلال التلفزيون تعد مشاهدة.

السينما تعني الجلوس في تلك القاعة المظلمة ورؤية البريق والظلال والألوان على شاشة كبيرة. والاستماع لصوت الصمت وتردد الأنفاس من خلال من يشاهدون الفيلم معي في الحفلة نفسها... ورؤية التماع نظرات الأعين في كل مكان من القاعة. كان هذا يحدث في الوقت الذي تمتلئ فيه دور السينما عن آخرها.

دور السينما لم تكن تعمل طوال أيام الثورة الـ 18 من 25 يناير حتى 11 فبراير... وفي الأيام التالية قيل انها عادت للعمل، لكنها لم تعد. لأن الأفلام كان يتم الاعلان عنها والحفلات يتحدد موعدها... لكن لا أحد يذهب لمشاهدة فيلم سينمائي، اما بسبب حظر التجوال في البدايات أو التوتر العام أو الأزمة الاقتصادية أو الاهتمام الزائد عن الحد بالشأن العام لدى المصريين، حيث يفضلون الجلوس ساعات طويلة أمام أجهزة التلفزيون ليشاهدوا برامج التوك شو ويعرفوا من خلالها ماذا جرى في مصر خلال هذا اليوم أو ذاك؟

أخيرا اتصل بي مدير احدى سينمات مدينة نصر... حمل لي البشرى أنهم سيعملون بجد، وأن لديهم فيلما جديدا هو: «صرخة نملة»، وكنا قد سمعنا أخبارا كثيرة وقرأنا في الصحف أن الرقابة كانت قد رفضت الفيلم، ولولا ثورة 25 يناير ما تمت الموافقة عليه... وهو كلام غير صحيح.

لأن الفترة المنقضية بعد الثورة لا تكفي لتصوير وانتاج فيلم، والحقيقة أن تصويره بدأ قبل الثورة... لكن كل الأعمال يقال عليها الآن انها لولا الثورة ما خرجت للوجود، أو أنها تنبأت بالثورة أو مهدت لها، أو أن أصحابها هم الآباء الكبار الذين خرجت الثورة من أحلامهم الكبرى.

قال لي مدير السينما... ان هذا الفيلم يعتبر أول فيلم مصري وربما عربي يعرض في مهرجان كان... لن أردد ما حكاه لي ناقد سينمائي صديق كان موجودا في كان، أترك له كتابة ما قاله... ولا مقارنته بين رد الفعل على مشاهدة هذا الفيلم على هامش المهرجان... وتفاعل جماهير كان مع فيلم «البوسطجي» الفيلم المصري القديم بالأبيض والأسود، الذي ينتمي لسنوات مجد السينما المصرية عن رواية يحيى حقي وسيناريو وحوار موسى صبري ومن بطولة شكري سرحان.

«صرخة نملة»... فيلم كتبه طارق عبدالجليل - وهو شقيق بطل الفيلم عمرو عبدالجليل - وطارق عبدالجليل كتب من قبل فيلميّ «عايز حقي... وظاظا رئيس جمهورية»، وهما من بطولة: هاني رمزي، و«صرخة نملة» من اخراج سامح عبدالعزيز، الذي أخرج من قبل فيلمي: «كباريه... والفرح»، وكتبهما له أحمد عبدالله، ثم أخرج مسلسل: «الحارة»، وكتبه له طارق عبدالجليل.

جلست على المقعد سعيدا... وما إن خفتت الاضاءة ووجدت نفسي مرة أخرى في الصالة المظلمة... ذلك الظلام الذي ينيره الفن والجمال والابداع الانساني حتى قلت لنفسي: والله زمان... جلست وأنا أمني نفسي بفيلم جميل أستعيد به عادتي القديمة التي تخليت عنها شهورا ليست قليلة بسبب الظرف العام الذي مر بمصر.

ولكن يا فرحة ما تمت أخذها الغراب وطار، القصة مستهلكة ولا جديد فيها، شاب يعيش في حي شعبي طموح يحب... والحبيبة تسافر الى الخليج، حيث يقدم الفيلم الصورة النمطية للخليج العربي وللأشقاء العرب، وهي الصورة التي تعود الى خمسينات القرن الماضي، ولم تستطع ستينات عبدالناصر أن تغير من هذه الصورة التي تصل لحدود النمط رغم البعد القومي شديد الأهمية الذي بدا في كل ممارسات عبدالناصر.

الحبيبة تعمل راقصة ومن الرقص الى ما يأتي بعده، عادة وتترك حبيبها الذي يبحث عنها في كل مكان ولا يجدها... ويحدث أن يذهب مع أبناء منطقته الى عضو مجلس الشعب حيث يعيش في التجمع الخامس ويختاره للعمل معه. وطبعا العمل في الممنوع. والممنوع يتطلب سفر عضو مجلس الشعب والشاب البطل الى الخليج. وهناك يجد نفسه وجها لوجه أمام حبيبة القلب القديمة. ولكنه يشاهدها في مشهد خليع وينتهي ما بينهما. وبعد نهاية قصة الحب تأتي نهاية الفيلم. ولأن كل ما يعمل فيه عضو مجلس الشعب من الممنوعات. وتبدأ الشرطة في مطاردتهما.

ويقرر عضو مجلس الشعب التخلص من الشاب... لأنه يعرف كل الأسرار... وبين قرار التخلص من الشاب واطلاق النار عليه يدخل علينا ميدان التحرير مقحما ولا علاقة له بأحداث الفيلم الأساسية. لدرجة أن اقحام التحرير يرتبط بخطأ درامي ضخم، لأننا وبعد مشاهدة مظاهرات التحرير كاملة نرى موكبا للرئيس السابق حسني مبارك تخترق شوارع القاهرة... وهو خطأ يجافي الواقع ويناقض أحداث الفيلم.

رقص وغناء ومواخير مليئة بالدخان الأزرق... وطبل وزمر في محاولة من صناع الفيلم لاجتذاب أكبر عدد من المشاهدين لرؤيته، خصوصا مشاهدي السينما الذين نسميهم جمهور الدرجة الثالثة.

شاهدت الفيلم وأنا أسأل نفسي: ما المشكلات التي جعلت الرقابة ترفض الموافقة على تصوير مثل هذا الفيلم؟... أم ان الجميع الآن يبحث عن بطولات بأثر رجعي؟

وعنوان الفيلم أتى من أن الانسان في مصر نملة، وأن هذه النملة لو صرخت من الذي يمكن أن يستمع اليها؟... ويمكن لأي كائن كان أن يضغط عليها وأن يقتلها باصبعه.

كل ما في هذا الفيلم سيتم استغلاله الآن... فعضو مجلس الشعب سيقال انه من رموز النظام السابق، ورجل الشرطة سيشار إليه بأنه من رموز النظام المخلوع، والعشوائيات كانت عشوائيات النظام السابق... والفساد كان فساد النظام البائد، ثم يأتي اقحام يناير في آخر الفيلم ليقول لنا ان يناير حل كل مشكلات المصريين بضربة واحدة، ومن السهل أن تصور البطل وكأنه في قلب ميدان التحرير من خلال الخدع السينمائية التي أصبحت سهلة الآن بفضل التطور التقني الكبير.