مها بدر الدين / الثورة السورية الكبرى الثانية

1 يناير 1970 01:32 ص
انطلقت الثورة السورية الكبرى (الأولى) ضد الاحتلال الفرنسي في عام 1925، من جبل العرب في جنوب سورية بقيادة المناضل سلطان باشا الأطرش، وتوسعت في بقية المدن السورية لينضم إليها المجاهدون في دمشق ودرعا وحمص وحماة وحلب وطرطوس واللاذقية ودير الزور والرقة في انتفاضة باسلة زعزعت كيان الاحتلال الفرنسي آنذاك وكبدته خسائر مادية وبشرية كبيرة وأقنعته بأن الشعب السوري لن يخضع حتى تحقيق مطالبه بتأسيس حكومة سورية وطنية، وبالفعل لم تهدأ البلاد حتى تمت الانتخابات البرلمانية السورية المستقلة في الثلاثينات وتشكلت الحكومة السورية الوطنية.

وأُذكر هنا ببيان الثورة السورية الكبرى، لعله يفيدنا الذكرى فننهل من حكمة الماضي ما يعيننا على رسم الحاضر، ونأخذ العبر من الأولين لصياغة المستقبل المقبل، فمما جاء في ذلك البيان التاريخي «يا أحفاد العرب الأمجاد... هذا يوم ينفع المجاهدون جهادهم... والعاملون في سبيل الحرية والاستقلال عملهم... هذا يوم انتباه الأمم والشعوب، فلننهض من رقادنا...».

«أيها السوريون: لقد أثبتت التجارب أن الحق يؤخذ ولا يعطى»

«أيها العرب السوريون، تذكروا أجدادكم، وتاريخكم، وشهداءكم، وشرفكم القومي، تذكروا أن يد الله مع الجماعة، وان إرادة الشعب من إرادة الله، وأن الأمم المتحدة الناهضة لا تنالها يد البغي...».

ما أشبه اليوم بالأمس، وكأنه قد كتب على الجنوب السوري أن يكون منبعاً للثورات الكبرى التي يبذل فيها الشعب السوري الغالي والرخيص لينال حريته ويفوز بكرامته ويحمي عزته، فمن درعا الأصيلة انطلقت شرارة الثورة السورية الكبرى الثانية، التي لم تكن على احتلال أجنبي أو استعمار غربي، بل على نظام سياسي طال عمره كثيراً حتى وصل إلى رمقه الأخير، وهَرَمَ سياسياً واقتصادياً ولم يعد له فسحة من الوقت تسمح له بالنهوض ثانية على أكتاف شعبه الذي لا يريد أن يهرُمَ أولاده وهم في المهد.

هذا النظام السياسي الذي احتل عقولنا لعقود عدة فمجد مبادئ حزبه الأوحد وجعله قائداً للدولة والمجتمع، وفرض على المجتمع السوري بصغيره وكبيره، بذكوره وإناثه، بمثقفيه وبسطائه، بأكاديمييه وبعماله، بمتدينيه وليبرالييه، بمتحضريه ومتخلفيه، بمفكريه ومن لا يريد التفكير، أن ينصهر شاء أم أبى في بوتقة هذا الحزب وإلا فإنه من الخائنين، والمدلسين، والمندسين، والمتآمرين، والمتخابرين مع الخارج.

كما احتل ضمائرنا وحولنا إلى نائمي ضمير من الدرجة الأولى، ندفع الرشاوى لكل قادر على الأذى، ونكتب التقارير بأقرب المقربين إذا اشتكى، ونشمت بالجار المعتقل لأنه برأيه تمادى، ونهلل لكل أفاق ما خجل من نفاقه وما استحى، ونصفق لكل عضو فاعل في الحزب يزأر في المؤتمرات القطرية وكأننا القطى، ونسمح لسارقينا بسرقة قوتنا بحجة أنه لا حول لنا ولا قوة.

لكن مهما طال الاحتلال فمصيره للزوال، لأن العقول تنضج ولابد أن تؤتي ثمارها، والضمائر تقوم من غفوتها فتصبح أكثر صحوة، والرغبة في نفض غبار الزمن الرديء تتكاثر في رحم الظلم والفساد لتولد الثورة، وقد ولدت الثورة السورية الكبرى الثانية لتكسر أغلال الفساد السياسي والفكري والاجتماعي والاقتصادي الذي يحيط بنا كشبكة العنكبوت، ولتعيد إلى السوريين حريتهم المسلوبة ومجدهم المكلوم وهويتهم التي ضاعت بين الملفات الخارجية الكثيرة التي تفتحها الحكومة هنا وهناك وتعطيها الأولوية على حساب الإصلاح الداخلي الذي (كما يزعمون) توجد مسوداته منذ أعوام طويلة في أدراج مذبح الشعب السوري المسمى زوراً وبهتاناً بمجلس الشعب، بحجة كل شيء خارجي ابتداء من الأطراف الخارجية مروراً بالمؤامرات الخارجية وانتهاء بالتخابر من الخارج.

واليوم إذ يطالب الشعب السوري بحقوقه المشروعة بهذا الزخم السلمي الذي لم تعرفه البلاد منذ أربعين عاماً، إنما هو مؤشر يدل بشكل صريح على وجود رغبة شعبية قوية في تنفيذ مشروع إصلاحي شامل لم يعد بالإمكان تأجيله أو التباطؤ في تنفيذه، والذي لو نفذ بسلمية وتحضر وبشفافية ونية صادقة فانه سيصب في مصلحة النظام الحاكم أولاً لأنه سيرتقي به ويحوله من نظام مستبد قمعي إلى نظام ديموقراطي حر، لكن قصر النظر الذي تعاني منه معظم المؤسسات الحكومية وأولها المؤسسة الأمنية تأب إلا أن تدفع السوريون إلى خط اللا رجعة واللا هدنة، وتؤكد على عدم قدرة النظام القائم على استيعاب نظرية التطور الطبيعي لإرادة الشعب والمتغيرات التي تطرأ على متطلبات المجتمع المدني، وهو ما يصَعّب مهمة الانتقال إلى المرحلة التاريخية الحتمية المقبلة على الشعب وعلى النظام نفسه.

إن ما يحدث على أرض سورية اليوم من انتهاكات أمنية للمواطن السوري واعتقالات عشوائية للشباب، واستخدام الرصاص الحي لقتل أطفالنا وأحلامنا بمستقبل أكثر إشراقاً، هو دليل على تمسك النظام الأمني وأجهزته الكثيرة باللغة الدموية الوحيدة التي يتقنها، ويؤكد أن طريق الحوار معه مسدود بحاجز شيد على دماء الشهداء، وهو ما يدفع بالثورة أن تتوسع وتنتشر ويصعب السيطرة عليها، أو تهدئتها، فمثل الشعب السوري اليوم كمثل قطعة الإسفنج التي يمكن أن تمتص مياه البحر كله لكن عندما تتشبع يصعب عليها امتصاص قطرة مطر واحدة.



مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]