نعيش في صراعات متتالية ومتوالية جماعية وفردية، الفرد منا يعيش في صراع داخلي فيما يجول ويصول به في خاطره وذهنه، ومرات عديدة يكون هذا الصراع الداخلي بين ما نريد وبين ما يحكمنا من مبادئ وقناعات وأحكام نؤمن بها وننطلق منها وقد يتصادم الهوى مع المبادئ والقناعات والأحكام، ومن هنا يبدأ الصراع الداخلي إلى أن نرجح كفة دون الأخرى، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى في الإنسان أن خلق فيه صفات تبدو في الظاهر متضادة متناقضة، مثل صفة الحب مع البغض، والخوف مع الرجاء، والسلبية مع الإيجابية، وغير ذلك.
وهذه الصفات إذا وظفها الإنسان في مجالها الصحيح ومداها الصواب فإنه لا يحدث بينها أي تضاد أو صراع، بل يكون بينها من التوافق ما يؤدي إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، وإن من أخطر الصفات التي تبدو في الظاهر متضادة متناقضة الصمت والبوح. والسبب الحقيقي لهذا الاختلاف يعود إلى عدم فهم حقيقة النفس البشرية، وأنها لن تسعد وتستقيم إلا بالاهتمام بالجانبين المتضادين معاً، وإعطاء كل واحد منهما غذاءه المناسب له، وهذا ما يقدمه الإسلام للإنسان، فإنه كما يغذي الجانب الروحي، يغذي الجانب المادي، وكما يغذي الصمت في مجاله، هو يغذي البوح في مجاله، وكما يغذي الخوف فهو يغذي الرجاء، ويوفق بينهما توفيقا يؤدي لصلاح الفرد والمجتمع.
إن احساس الإنسان بالمسؤولية اتجاه نفسه ومجتمعه يدفعه إلى البوح وعدم كتمان الآراء السديدة والأفكار الحكيمة التي تجدد وتحدث تغييرا في خطى التطور والتطوير في جميع مجالات الحياة، وحتى يستطيع الفرد أن يمارس البوح بكل حرية وانطلاقة لابد من المجتمع أن يرعى ويراعي مصلحة الفرد والسماح له بالتعبير عن آرائه والمشاركة في تدبير وبناء وتطوير المجتمع، من دون قمع وكبت للحريات من إبداء للآراء بأفكار ومفاهيم مبدعة غير تقليدية،وممارسة الحريات الشخصية التي لا تتعدى على حريات الآخرين وتساهم في تنمية الفرد والمجتمع والتي تدفع المجتمع برمته إلى الأمام خطوة تلو الأخرى.
وشهدنا عندما انصاع وخضع الفرد للصمت ولم يستطع أن يوازن ما بينه وبين البوح حصل ما حصل من أحداث مؤسفة في بعض الدول، وكانت النتيجة تخريب وتشريد وهبوط لا تشييد وبناء وصعود وارتقاء، واللوم هنا يقع على الفرد لأنه رضي بعيشة تكتيم وتكميم الأفواه مقابل التمتع بأدنى مرتبة من الحقوق الإنسانية التي تجعله يعيش ويحيا حياة بسيطة ولكنها مقيدة ومكبلة بقيود الرهبة والفزع من أنظمة جارت وما زالت تجور من أجل البقاء على كرسي العرش، إلى أن جاء يوم الانفجار يوم تكسير وتفتيت الأصفاد والأغلال، بعدما عانت الشعوب من الظلم والجور والهلاك قررت البوح والإعلان وعدم الكتمان والتهاون والتنازل عن الحقوق الإنسانية كافة وليس فقط حق العيش.
وتأتي هنا حقيقة على جميع الأنظمة الإيمان بها وجعلها دستورا يحكمها وينظم حياتها، هي وإن طال زمان التكتيم والتكميم، حتما ستأتي أمم تنبذ التراخي والتهاون في حق الفرد وتؤمن بالجهر والبوح ومشاركة الفرد بترتيب وتشكيل منظومة حياة صحية متوازنة لا اختلال واعتلال بها من أجل العيش بنمو وتطور سرمدي يجعل الفرد يخرج عن المألوف ليعيش عيشة الرخاء وليست عيشة البلاء الخارجة عن نطاق المنظومة، وتعينه على التخلص من صراع المتضادات وموازنة التضاد ليصبح توافقا واتفاقا وانسجاما وتناغما ما بين الأفراد والمجتمعات.
منى فهد العبدالرزاق الوهيب
[email protected]