ليس للأفكار مدى، وليس للأفكار وقت، وليس للأفكار موطن، وليس للأفكار مواسم، وليس للأفكار أشخاص محددون تغزوهم. تطل علينا الأفكار في كل الأماكن من دون سابق موعد أو استئذان، إذ إنها تأتينا في البيت وفي العمل وفي الطائرة وفي السيارة وفي غرفة النوم وأثناء الأكل وفي لحظات مختلفة لا نتوقعها. دائماً تبدأ الأفكار بحجم صغير، ومن ثم تكبر وتتسع إلى أن تكوّن لها فلكاً خاصاً بها، والأفكار إن وجدت رعاية وإيمان بها سوف تكون مشاريع عملاقة ناجحة. الغريب أن الأفكار لا تطالها يد ولا سوط ولا مخبر، لذا تكون بعض الأحيان أشبه بالتنظيم السري الذي يعمل ويتحرك خفية إلى أن يتم الإعلان عنه وعن مخططاته وأهدافه.
ولو دققنا في بعض الأفكار التي كانت صغيرة ثم تحوّلت في ما بعد إلى مشاريع عملاقة ناجحة، لوجدنا أن معظم تلك المشاريع كانت بدايتها مجرّد أفكار صغيرة، وبفضل الله، ثم الإيمان بها وقوة الطموح تحوّلت من فكرة في الرأس إلى مشروع ناجح على أرض الواقع. ومن هذه الأمثلة محرك البحث العظيم على شبكة الإنترنت «غوغل»، إذ كان مشروع تخرج لطالبين أميركيين هما لاري بايج وسرغي برين عام 1998. والموقع يومياً يستقبل ملايين طلبات البحث، ولقد بلغ عدد من يعمل بشركة قوقل العالمية اليوم 5680 موظفاً، رغم أنه كان مجرد فكرة مشروع تخرج!
ومن الأمثلة كذلك قصة هارلند ساندرز، صاحب سلسلة مطاعم كنتاكي العالمية، لأن هذا الرجل عمل بداية حياته مزارعاً بدولارين كراتب شهري، ثم عمل قاطع تذاكر في أحد باصات النقل، ثم عمل جندياً عسكرياً، ثم أخذ ينتقل من عمل إلى آخر، حتى طرأت في رأسه فكرة بيع الوجبات السريعة على المسافرين في محطات القطارات على عربة صغيرة متواضعة، ولما راحت أعداد الناس تتزايد طلباً لطعامه انتقل إلى فندق صغير بجانب المحطة التي كان يبيع فيها، حيث افتتح مطعماً صغيراً يتسع لـ142 زبوناً، ثم راح يطور خلطته السرية تلك على مدى تسعة أعوام، تلك الخلطة المكونة من 11 عشبة طبيعية وأنواعا مختلفة من البهارات، إلى أن أصبح يمتلك سلسلة مطاعم كنتاكي العالمية وثروة هائلة من المال!
ومن الأفكار البسيطة في بداياتها والجميلة في تحقيقها حكاية اختراع الضمادات اللاصقة للجروح، إذ فكر في يوم من الأيام الزوج إيرل ديكسون أن يضع حداً لآلام زوجته المتكررة، بسبب عدم حذرها الشديد من أدوات المطبخ التي تُدميها من وقت لآخر، وبسبب أنه وقتها لم تكن هناك ضمادات صغيرة ومختصرة على سطح الجرح فقط، عمد ديكسون إلى لصق قطع صغيرة من القماش النظيف والمعقم في منتصف شريط لاصق، بحيث تبقى هذه القطع جاهزة للاستعمال فوراً عند حدوث أي طارئ لزوجته، ومن ثم تبنت هذه الضمادات اللاصقة إحدى الشركات الصحية، وبالفعل انتشرت هذه الضمادات ولاقت طلباً كبيراً من قِبل المستشفيات والمراكز لصحية والناس الذين يحتاجونها!
ومن الأفكار التي بدأت صغيرة ثم أصبحت عملاقة حكاية ذلك المخترع الهندي صابر باتيا، الذي اخترع لنا بريد «الهوت ميل»، ففي عام 1988 قدم صابر إلى أميركا للدراسة في جامعة ستانفورد، وقد تخرج بامتياز مما أهله للعمل لدى إحدى شركات الانترنت مبرمجاً، وهناك تعرف على شاب تخرج من الجامعة نفسها يُدعى جاك سميث، وكانا كثيراً ما يتناقشان عبر أحد البرامج الخاصة للشركة التي يعملان بها، فلما اكتشفهما صاحب الشركة وجه لهما إنذاراً شديد اللهجة وحذرهما عقوبة تكرار هذا الأمر، فدأب صابر على التفكير في كيفية إيجاد برنامج خاص لكل إنسان يريد أن يتمتع بالحصول على صندوق بريد شخصي، وبالفعل وصل صابر عام 1996 إلى البريد الشخصي «الهوت ميل»، وانتشر هذا البريد الإلكتروني انتشاراً سريعاً بين مرتادي الإنترنت، ولقد بلغ عدد المشتركين به في عامه الأول عشرة ملايين مشترك! ومن ثم قرر الملياردير الشهير بيل غيتس، صاحب شركة ميكروسوفت شراء هذا الابتكار الرائع، وبعد مفاوضات طويلة استطاع صابر الهندي أن يحصل على مبلغ 400 مليون دولار كانت نظير بيع «الهوت ميل» لشركة ميكروسوفت. وذُكر أن التاجر الأميركي فورد، قُدم له تقريراً خاصاً عن أحد موظفيه، وكان في نهاية هذا التقرير السري توصية تطلب من صاحب الشركة فورد بأن يقوم بطرد ذلك الموظف، فما كان من فورد إلا أن استدعى ذلك المسؤول الذي قام بكتابة التقرير السري، فلما مثل أمامه المسؤول سأله فورد عن السبب الذي جعله يطالب بطرد ذلك الموظف؟ فأجاب المسؤول أن ذلك الموظف كثير السرحان، وأنه كلما دخل عليه في المكتب وجده رافعاً رجليه على الطاولة وواضعاً كلتا يديه خلف رأسه. فضحك فورد وقال: دعه يسرح كيفما شاء، ودعه يجلس كيفما شاء، إن هذا الموظف جاءني في يوم من الأيام بفكرة مازالت تدر عليّ ملايين الدولارات حينما دخلت عليه ووجدته على هيئته نفسها هذه التي وصفتها!
حسين الراوي
كاتب كويتي
[email protected]