تحقيق / محلات العطارة تتخلى عن تقليديتها لتلبس ثوب المحلات التجارية
الحقيقة ضائعة بين العلاج «الشعبي» و«العشبي»
1 يناير 1970
09:47 م
| كتبت بشاير عبدالله |
يشكل محل العطارة الصغير الموجود في كل الأحياء والمدن العربية القديم منها والجديد، صورة جميلة في ألبوم ذكريات كل منا.
كان العطار يبيع الزيوت الطبيعية وبعض الأعشاب التي تستخدم لأغراض صحية أو جمالية. وظللنا محتفظين بهذه الصورة البسيطة للعطار حتى سنوات قليلة مضت، إذ حدثت طفرة في «فن» العطارة ألبسته ثوباً جديداً بات يجذب شرائح كبيرة ومتنوعة من المجتمع في إطار نمط أشبه بالتجاري.
«العشابون الجدد» أو اختصاصيو العلاج بالنباتات «الطبية» تخصص لهم القنوات الفضائية ساعات بث طويلة يعلنون فيها عن أنفسهم، وعن أدويتهم وقدراتهم في معالجة الأمراض، وتفرد لهم الصحف أبوابا خاصة لتلقي رسائل القراء «المرضى» ووصف العلاج اللازم لهم، وتحتل إعلاناتهم الملونة مساحات كبيرة من المطبوعات الدعائية وغيرها.
هم يملأون الدنيا ويشغلون الناس بابتكاراتهم في طرق الشفاء، و الأدوية والمركبات العلاجية ذات المنشأ الطبيعي والتركيب المعتمد لا على قوانين الكيمياء العلمية، إنما على مبدأ التوارث من جيل إلى جيل! البعض يعتبرهم من معالجي «الطب البديل»، والبعض الآخر يسميهم معالجين بالطب القديم، أو الشعبي. بعضهم يخلط الأعشاب ويصنع المركبات بصورة أقرب إلى البدائية، وبعضهم الآخر يغلف منتجاته من حبوب وسوائل ومساحيق وغيرها بطريقة أنيقة، و شكل متقن أقرب إلى شكل ومظهر الأدوية الطبية الحديثة التي يتم تصنيعها في مصانع الدواء العالمية.
بعضهم يصف الأمراض اعتماداً على معرفة شعبية قديمة في ثقافته المحلية، ويستخدم في معالجتها أساليب وخلطات عشبية خاصة بتلك الثقافة، وبعضهم يؤكد عالمية أساليبه العلاجية ومكوناته العشبية وأنها ترجع جميعها إلى الطب الإنساني القديم.
والجامع بينهم على اختلاف طرقهم ومنتجاتهم العلاجية هو ابتعادهم جميعاً عن الطب الحديث ومبادئ العلوم الحديثة، واعتمادهم الملاحظة والحكم الذاتي كأساليب لتشخيص الأمراض.
كما تداخل العلاج الشعبي والعشبي، بأنواع من «العلاج الروحاني» لدرجة أصبح من الصعب التمييز بينهما. وفرضت هذه الظاهرة نفسها في واقعنا اليومي. فكثيرون من المعالجين بالطب الشعبي يمارسون أساليب علاجية مرتبطة بالتراث الديني، ويجمعونها بالأدوية العشبية التي يصنعونها.
هل صحيح أن النباتات العشبية «إن لم تنفع فهي لا تضر؟» وهل صحيح أن بعض «الأدوية» والتراكيب المستخرجة من الطبيعة تفيد في علاج أمراض استعصى على الطب مداواتها مثل السرطان، أو غيره من الأمراض الخطيرة؟ أم أن هؤلاء يبيعون الوهم للناس؟
«العطارة الحديثة» مالها وما عليها، والتداخل الجاري حالياً بين المعارف العلاجية الشعبية القديمة لدى الشعوب والطب الحديث موضوع يستوجب الطرح، ليس من زاوية التشكيك بالطب «العشبي» أو الادوية «العشبية» الآتية من قلب الطبيعة، فهناك دون شك مصداقية للبعض يحافظون عليها من واقع الخبرة والمهنة والتجربة والمراس، مسنودين الى ذخيرة توفرها الطبيعة لهم من مواد وأعشاب تستخدم في عقاقيرهم لعلاج من يحتاج، خاصة وان الطب الحديث يعتمد في أدويته على كثير من الاعشاب. أمثال هؤلاء على ندرتهم ليسوا المقصودين. المقصود هم مدّعو هذا «الطب» بخبراتهم «المزيفة» وعقاقيرهم المشكوك في صحتها. وبعبارة ادق لركوبهم «موجة» الثراء على حساب صحة الناس ولو من باب مهنة لها مكانتها بين عموم الناس.
في السطور التالية معالجة من أبواب مختلفة.
منصور العنزي صاحب مركز «...» للعلاج بالأعشاب يطرح نفسه كمعالج بالطب الشعبي الكويتي، ومتخصص في «الطب البدوي» تحديداً. ويشير إلى خطورة ما يراه من اندثار تدريجي - بحسب تعبيره - للطب البدوي، كما اندثر (تقريباً) قبله «الطب الحضري».
ويعتبر المعالج منصور العنزي أنه لا يجوز اعتبار طب الأعشاب «نوعاً بديلاً من الطب» بل هو من وجهة نظره «الطب الأساسي» في حياة الإنسان لأنه الطب الأقدم، وهو أصل الطب. وأما الطب الحديث فيمكن اعتباره مسانداً له، ولا أدل على ذلك في رأيه من أن الطب القديم أو الشعبي ينجح في علاج أمراض يفشل في فهمها أو علاجها الطب الحديث.
ويؤكد أن معظم المرضى الذين يقصدونه طلباً للعلاج يأتون إليه بعد أن يئسوا من الطب الحديث وأدواته ووسائله، وأنه في بعض الأحيان يقوم الأطباء في المراكز الطبية المختلفة بإرشاد المرضى- سراً- إلى معالجين شعبيين ليخلصوهم من معاناتهم، ما يعني أن الأطباء أنفسهم يفهمون أهمية العلاج الشعبي، وربما لا يستطيعون التصريح بذلك علناً حرصاً على مراكزهم الطبية، وخوفاً من عدم إقبال المرضى عليهم.
ويعتبر العنزي نفسه من معالجي « الطب الشعبي» التقليديين، كونه يتبع أساليب علاجية قديمة تعلمها من والده، ويمارسها منذ أكثر من عشر سنوات. فهو ليس من المجددين في العلاج الشعبي.
وترتكز نظرته للمرض أياً كان على أساس اعتبار السرة «السر» وهو مكان الحبل السري المتصل من مشيمة الأم إلى الجنين، مركزاً لالتقاء الأعصاب وخلايا العصب في جسم الإنسان الذي يتكون من شبكة عصبية متكاملة.
يستخدم المعالج منصور العنزي أساليب علاجية خاصة بالطب البدوي، مثل شد وحزم الرأس بعقال البعير (الضغط على الرأس ثم إرخاؤه) لمعالجة أمراض مثل «فري الرأس» وهو كما يقول تجمع الغازات والأبخرة من الجسم، وخاصة الأمعاء إلى الطبقة الموجودة بين فروة الرأس والجمجمة. ويعتبر أن كثيراً من الأمراض تنتج عن وجود نسبة من الهواء والغازات داخل الرأس.
ومن الأساليب التي يستخدمها كذلك ما يعرف بـ«اللبخة» وهي وضع لبخة من الأعشاب على الرأس، وربطها لمدة 6 ساعات ثم رفع اللبخة وتكرار العملية على حسب الحالة، إضافة إلى طريقة الكي التي تستخدم لعلاج أمراض مثل «عرق النسا» وغيره من الأمراض.
«عقال البعير»... و«القباقب» علاجات نافعة
وفي مركزه الذي يمارس فيه طب الأعشاب في قلب أحد المجمعات التجارية الحديثة في مدينة الجهراء وجدنا علاجاً لمعظم الأمراض، ووسائل لزيادة الجمال من مختلف النواحي.
فأرفف المركز اشتملت على أنواع مختلفة من العسل المخصص لعلاج أمراض معينة مثل «حساسية الصدر، وأمراض الباطنية، واضطرابات المسالك البولية، ونوع من العسل خاص بأمراض العقم، وآخر يعالج التهاب الكبد الوبائي. وهناك أنواع لتحسين الذاكرة، والتخلص من النسيان».
وكلها أنواع من العسل معالجة بطريقة عشبية بما يضمن الحصول على النتائج المرغوبة في العلاج، على ما يقول منصور.
وعندما سألناه عن المعايير والأوزان التي يستخدمها في إنتاج مركباته العشبية وأدويته قال أن لا معيار «علميا» لها وأن لا أداة علمية مقننة تستخدم في ذلك، وإنما يتبع حدسه القائم على الخبرة والممارسة. وفي إجابته عن سؤال يتعلق بنسبة النساء إلى الرجال الذين يقصدونه طلباً للعلاج يقول ان النساء يشكلن نسبة 80 في المئة من طالبي العلاج العشبي والشعبي لديه، وأنهن من شرائح اجتماعية مختلفة، ومستويات تعليمية متنوعة.
ويختتم المعالج منصور العنزي حديثه بتأكيد ضرورة «نشر الوعي الخاص بأهمية العلاج الشعبي»، ومنعه من الاندثار وضرورة إحياء «الطب الشعبي البحري الكويتي» الذي اندثر تقريباً بحسب تعبيره وكان قائماً على القواقع والأعشاب البحرية وبعض الكائنات البحرية الأخرى، كما يجب الحفاظ على ما تبقى من الطب الشعبي البدوي وأساليبه الفعالة في علاج الأمراض.
عطارة تلفزيونية حديثة
قمنا بزيارة إلى محل موجود في أحد مجمعات منطقة السالمية تابع لاحدى الشركات المنتجة للمركبات العشبية ومقرها إحدى الدول العربية. وتفقدنا كزبائن نوع الأدوية، والعلاجات المعروضة والتي يعلن عنها يومياً على العديد من القنوات الفضائية، ويستهلك الحديث عنها وعن نتائجها «العجيبة» ساعات طويلة من البث الفضائي.
كانت البائعة تتحدث «بثقة» الأطباء والصيادلة وتشرح طويلاً عن نتائج الأدوية والخلطات العشبية المختلفة التي تم تعليبها بصورة جيدة شبيهة بطريقة تعليب الأدوية المصنعة طبياً.وعرضت لنا مجموعة كبيرة من المنتجات التي تتنوع بين مكملات غذائية وأنواع من المساحيق والسوائل والحبوب والكريمات التي تتعامل مع كثير من المشكلات الطبية مثل أمراض الصدفية والبهاق والعقم والضعف الجنسي لدى الرجال، وتبييض البشرة والتنحيف، والعناية بالشعر، وتكبير الصدر للنساء.
وكل هذه الأمراض وجدت لها في محل العطارة الحديث هذا طباً ودواءً. وعندما تتناول بيديك إحدى علب الأدوية والخلطات وتبحث عن إرشادات خاصة بالمكونات المتضمنة فيه أو طريقة الاستخدام، تجد أن المكونات مكتوبة بصورة مختصرة جداً ومقتصرة على بعض الأعشاب الطبيعية التي تم مزجها اعتماداً على معرفة قديمة وبلا أي معايير علمية وطبية. وهناك عبارة تذيل كل ملصق بإرشادات موجودة على هذه العلب ومكتوب عليها «تم التصنيع وفقاً للمعايير العالمية» وليس معروفاً ما المعايير العالمية التي تم الاحتكام إليها لتصنيع هذه الأدوية، مع الاعتراف الكامل من أصحابها وباعتها أن لا إشراف طبيا أو مراجعة علمية تتم لهذه المنتجات.
رئيس مركز الطب الاسلامي: ممارسو الطب الشعبي
والعلاج بالاعشاب يرتكبون مخالفة قانونية
نعلم جميعاً ونحترم كون التراث الإسلامي يشتمل على بعض أساليب التداوي والعلاج، وأن به تقديراً معيناً لبعض معطيات البيئة الطبيعية العربية. ولكن هل يعني ذلك أن نستمر في التصديق بفاعلية «بول الإبل» في معالجة مرض عضال مثل السرطان، استغرق بعض الباحثين والممارسين في الطب الحديث أعواما طويلة وجهودا عظيمة لاكتشاف طرق علاجه؟ أو أن نؤمن بأثرأعشاب ونباتات معينة في علاج أمراض على درجة كبيرة من الخطورة على حياة الإنسان؟
مع الأخذ بعين الاعتبار ما هو معلوم من تشجيع الإسلام للعلم وتطويره، وأن العلاجات المستخدمة سابقاً كانت ضمن إطارها الزماني والمكاني، والذي تطور كثيراً عن ذلك الإطار الذي خرجت فيه الأدوية والوصفات القائمة على الأعشاب النباتية والافرازات الحيوانية، وغير الخاضعة للشروط العلمية الحديثة.
ذهبنا بأسئلتنا هذه إلى مركز الطب الإسلامي التابع لوزارة الصحة، وهو قسم متخصص في تطبيق العلاجات الواردة في التراث الإسلامي للتعامل مع بعض الأمراض.
وتحدثنا إلى رئيس المركز الدكتور حمد راشد العباد الذي أكد أن مركز الطب الإسلامي هو مركز طبي بالمقام الأول ويقوم على مفاهيم الطب الحديث، وأن المبدأ الأساسي للمركز هو تطبيق الأساليب العلاجية الواردة في التراث الإسلامي بشكل علمي طبي مقنن. فهناك قسم تصنيع ملحق بالمركز يشتمل على مختبرات وأبحاث دوائية، ويعتمد المبادئ العلمية الحديثة في فحص التراكيب العشبية وغيرها، والتأكد من جودتها قبل استخدامها على المرضى.
ويتضمن المركز كما علمنا من الدكتور العباد طاقما متخصصا من الأطباء والممرضين والصيادلة والفنيين القادرين على التعامل مع المفاهيم الطبية العلمية بشكل سليم.
كما يشير إلى أن اللجوء للنباتات والأدوية العشبية والحيوانية ينبغي أن يكون مبنياً على مراجعة طبية حديثة لهذه الأنواع من طرق التداوي، وأن بعض النباتات والأدوية المأخوذة من الطبيعة يمكن أن تكون مضرة لحالات معينة، ويمكن أن تأخذ طبيعة سمية وتؤدي إلى نتائج سلبية خطيرة على صحة المرضى،إذا ما تم مزجها مع عناصر ومركبات أخرى بطريقة غير علمية.
ولدى سؤاله عن ممارسي العطارة والعلاج بتراكيب الأعشاب وأنواع أخرى من العلاج العشبي والشعبي، قال أن هؤلاء الممارسين لما يسمى بالطب الشعبي، والعلاج بالأعشاب يرتكبون مخالفة قانونية أولاً لأنه لا يسمح لغير الحاصل على بكالوريوس طب وجراحة بمعالجة أي فرد والتعامل مع جسده علاجياً، ثانياً يرتكبون أخطاء جسيمة لكونهم غير دارسين أصلاً لتراكيب النبات، وغير عالمين بالمجاميع الكيميائية وبالتالي هم يتعاملون مع المركبات العشبية بطريقة عشوائية، وقد يسببون الضرر بصحة الناس، وحدث كثيراً أن تعرض البعض لمشكلات صحية كبيرة نتيجة لتناولهم تلك الخلطات العشبية وغيرها من منتجات غير مقننة علمياً.