مشاهـد... / نصف قرن.... في القيود

1 يناير 1970 04:15 م
| يوسف القعيد |

لم يسعدني زماني بالتعرف على صبحي الجيار... ذلك الكاتب الذي صنع أسطورته الخاصة. وحوَّل تجربة حياته وعذابه... إلى كتابة وفن وعلاقات مع الآخرين.

لقد كنت ولا أزال مشدوداً بحالة من الذهول إلى تجربة هذا الإنسان الفريد الذي قضى 45 عاماً من حياته في سريره. وفي هذا السرير مارس كل حياته. أقول إنني لم أتعرف عليه. ولا على حسين القباني. والقباني قصة لا تقل قوة وإرادة عن صبحي الجيار. وأنا لا أعرف هل كانا يعرفان بعضهما؟ وهل كانت هناك اتصالات بينهما؟ وهل استفاد أحدهما من مشكلة الآخر؟ رغم أنهما اشتركا في ترجمة كتاب واحد... ترجم صبحي أجزاء منه. وترجم القباني أجزاء أخرى. رغم أن القباني كانت مشكلته أقل وطأة... كان يتحرك على كرسي متحرك، وكان يخرج ويدخل. ولديّ كتاب قرأته له عن أيام سفره الى لندن من أجل العلاج... ربما كان عنوانه «أيام في لندن»... ويتصدر الغلاف رسم له وهو يجلس على الكرسي المتحرك وينظر إلى الأفق البعيد... والإرادة والتصميم يبدوان من نظرته بشكل قوي... أقول إنني لم تمكنني ظروفي من التعرف إليهما رغم أنني وصلت إلى القاهرة وأقمت بها سنوات وهما لا يزالان على قيد الحياة.

صبحي الجيار... كان يعقد ندوة... وحسين القباني كانت له ندوة... وكان ذلك وقت تجنيدي بالقوات المسلحة في تلك الفترة الواقعة بين نكسة يونيو 1967 وصدمة أكتوبر 1973. ما جعل حركتي مقيدة لحد ما، فضلاً عن أن ما كان يحركني للتعرف على الأدباء والكتاب. عنصر القراءة لهم أولاً... ولأنني في تلك الفترة البعيدة... لم أكن قد قرأت لهما. ربما كان ذلك هو السبب في عدم السعي للتعرف عليهما... نادم على ذلك... لأن القراءة اللاحقة. جعلتني أدرك – ولكن بأثر رجعي – أن ذلك التعارف كان سيشكل إضافة إنسانية وأدبية لتجربتي.

ربما كان مطلوباً أن يقرأ الإنسان لكتاب لا يعرفهم. تصله كلماتهم بعيداً عنهم. ولكني لست من هذه المدرسة. لأنه عندما يتكامل التعارف الشخصي مع التعارف على الورق... أعتبر أن القراءة ليست فعلاً مجرداً... هي عملية تعارف، ولكن على الورق. أعرف من أقرأ به وإن لم أكن أعرفه أحاول التعرف عليه. وأنزعج كثيراً جداً عندما أمسك بكتاب لكاتب لا أعرفه ولا أجد عليه أي معلومات عنه.

وللأسف الشديد... فإن معظم الكتب العربية الجديدة. والكثير من القديم منها. يخلو من أي معلومات عن المؤلف، مع أن الغلاف الخلفي من الكتاب. والذي يمثل المساحة التي تترك بيضاء في أي كتاب. خصصت من أجل مثل هذه المعلومات... أما إن كان الكاتب معاصراً لي فأحاول أن أسأل من يعرفونه. لأن هذه المعرفة تكمل تعاملي مع ما كتبه... خصوصاً أنه ما من كتابة. خاصة في مجالي القصة والرواية والشعر. والنص المسرحي. أي في حقول الإبداع الأدبي عموماً. أقول ما من كتابة إلا وفيها شيء من ذات الكاتب. لا أقول انه يكتب عن نفسه. أو أنه لابد وأن يمر بالتجارب التي يكتب عنها. لكن لابد من بذرة. لابد من لحظة أولى تخرج من حياة الكاتب ومن تجاربه. تكون هي النواة التي يبني عليها عمله الأدبي. وأنا متأكد من هذا رغم نفي الكتاب جميعاً. وحرصهم على إثبات تلك العبارة التي تقول إن أي تشابه بين النص المكتوب والواقع هو مجرد صدفة. أنا أقول إن هذا التشابه يكون مقصوداً. حتى إن قال وعي الكاتب له انه غير مقصود. فإن الأمر عبر اللاوعي يؤكد القصدية.

ولا يجب أن ننسى أن 70 في المئة من العملية الإبداعية تتم عبر اللاوعي. يجري ونحن غير منتبهين لأنه يجري. ويتم بينما نحن نمارس شؤون حياتنا الأخرى. لهذا فأنا أكرر للمرة الثالثة أنني عندما قرأت صبحي الجيار. وحسين القباني بعد رحيلهما عن العالم. ندمت كثيراً لعدم التعرف عليهما. خصوصا أن ذلك كان متاحاً وكان ممكناً ولم يكن ليكلفني الكثير. ولكن هل هناك قيمة للندم؟! لا أعتقد.

يقولون إن القراءة عمر ثانٍ... شعرت بهذا عندما قرأت مذكرات صبحي الجيار «ربع قرن في القيود». وكتاب المرحوم مصطفى عبد الوهاب... عن صبحي الجيار... معظم من يكتب عنهم الإنسان الآن تسبقهم كلمة المرحوم.

يبدو أن كل الأشياء الجميلة في حياتنا إما ماتت... أو أنها تموت. أو مرشحة للموت... أنظر لنفسي أحياناً وأستغرب هذه الحالة. موتى يدفنون موتى. موتى يسلموننا لموتى. هكذا هو الموت. الحقيقة المؤكدة في الحياة.

أما الكتاب الأول فهو كتاب ضخم يقع في ثلاثة أجزاء... عنوانها واحد: «ربع قرن في القيود»... الجزء الأول عنوانه: المأساة. والجزء الثاني عنوانه: الكفاح. والجزء الثالث عنوانه: الحصاد، أما كتاب مصطفى عبد الوهاب... الذي مر في حياتنا الثقافية كالشهاب السريع فعنوانه: الأديب صبحي الجيار، وقد قدم الكتاب يوسف الشاروني.

وصبحي الجيار – لمن لا يعرف – ولد في 27/2/1927. أي أنه مات عن ستين عاماً إلا يومين فقط، ومن أعمال صبحي الجيار الأدبية المؤلفة حسب القائمة التي أعدها مصطفى عبد الوهاب:

لم قُدر عليَّ هذا؟ وهو كتاب عن قصة حياة كاتب أميركي معاق، هو «إيرل شنك مايرز»... وكتب له المقدمة صبحي الجيار وحسين القباني وترجمته فاطمة محجوب. وصدر سنة 1960«يستر عرضك»... مجموعة قصصية 1961، «سوق العبيد»... مجموعة قصصية 1963، «العيون الزرق»... مجموعة قصصية 1965، «على الأرض السلام»... مجموعة قصصية 1972، «نهاية المطاف»... مختارات قصصية أعدها مصطفى عبد الوهاب 1989.

ومن ترجماته:

«معركة السفينة»... تأليف فيكتور مايز. مؤسسة فرانكلين 1962، «قصة فلاديفيا»... مسرحية تأليف فيليب باري. مؤسسة فرانكلين 1964، «مختارات قصصية»... تأليف فرانك ستكتون. فرانكلين 1964، «السيف المعقوف»... الجزآن الأول والثاني... تأليف هارولد لامب. فرانكلين.

وشارك في ترجمة الباقي من الكتاب حسين القباني «الشمس كم هي نائية»... تأليف: دوبرتا نشوستيش... عن هيئة التأليف والترجمة 1971، «برج الجوزاء»... دار المعارف 1973، «كيف تقوي ذاكرتك». دار المعارف 1974.

أي أن الرجل برغم كونه يمارس حياته في سريره. ولا يتحرك منه ولم يكمل 60 عاماً من عمره... ترك لنا هذا الحجم من الكتابة الإبداعية. والترجمات. لن أجسده، لكن أسأل ماذا كان سيفعل لو أنه كان إنساناً عادياً؟