ضواحي / الحلم الزجاجي

1 يناير 1970 03:37 م
| نوره سمحان |

البداية

بالرغم من امتلاكهما قصورا عدة في مختلف أنحاء العالم، إلا أنهما فضلا على أن يقضيا أيام الشيخوخة في وطنهما... براحة تامة في قصر حديث... فريد... بفكرته تعويضا عن ليالي العمل المتواصل... الشاق لبناء إمبراطورية الثراء الممتدة بفروعها المختلفة بكل أنحاء العالم، ثم تسليم راية العهد الجديد لأبنائهما لمواصلة العمل بجد وحماس لمستقبلهم المتألق ببريق الذهب.


الحلم الزجاجي

وأخيرا تجسد الحلم... أصبح واقعا... حقيقة ملء العين... السمع قصر زجاجي... بديع التصميم، يظهر نهارا وليلا كجوهرة ماسية متلألئة... بني على ربوة تم استحداثها على ارض منبسطة بأيدي آلاف العمال... بإشراف نخبة من المهندسين واستغرق العمل لسنوات عديدة، ليعلو القصر الماسي ممتطيا صهوة المدينة بهيبة فارس، حاملا لواء النصر مشعا براقا صوب الأفق باعتداد وفخر.


الشرفة الجنوبية اليوم الأول

وقفا يتأملان البحر المترامي الأطراف في الشرفة الجنوبية للقصر:

- انظري يا عزيزتي لهذا الصياد الجسور يصارع لجة البحر، يذكرنا بسنوات الكفاح التي عشناها سويا. يتنفس بعمق يود لو نسيم البحر يبرد أعماقه التي تغلي من الوحدة والكآبة:

- صوت البحر يضجرني... الغثيان ينتابني من الأمواج التي تركض وراء بعضها البعض... بنزق وطيش... أما ترى الزبد الأبيض يعلو شفاه الأمواج إنها تبصق علينا... يا للسخرية...!

سحبته من يده بغضب... دخلت قبله مسرعة بينما هو وراؤها يركض بوهن مرددا:

- تركض بنزق وطيش تصوير دقيق... مثير للحظات لم نجربها وداعا لشباب مات غرقا، في دوامة السعي الرهيب إلى العمل... الطمع في دنيا المال.


الشرفة الغربية اليوم الثاني

الجلوس... الاستلقاء على أريكة مريحة تضمهما بالصالة المطلة مباشرة على الغابة، يبعث عليهما متعة واسترخاء عميق ينشدانه دوما لراحة الأجساد... الأرواح المنهكة.

فالجهة الغربية من الربوة تتميز بغابة كثيفة بالاشجار المختلفة من جميع بقاع العالم، يشرف على العناية بها فريق من المزارعين الأكفاء لتبقى خضراء باسقة تطاول عنان السماء:

- إنني أحسد الأشجار...!

تلتفت إليه بحنان تكمل... بصوت رقيق يحمل كثيرا من الشجن... أكملت... لأنها تبقى خضراء متجددة، تتراقص مع الريح تتمايل بنشوة أريج من أسرارها تنفحها لبهجة لكــــون وارواء لعــــطش القـــلوب الظــــامئة، بنغــــمات طرب شجية من حفيف وخشخشة أوراقها... حقا إنها راقصة الطبيعة الفاتنة... ضمت يديه بشوق على صدرها المتأجج بالحنين وحب الحياة... سحب إحدى يديه... مررها على جبينها هامسا بشيء من السخرية:

- ربما لأنها تجري العديد من العمليات التجميلية.

سحب يده الأخرى... أشاح بصره عنها قائلا بجدية يشوبها المرح:

- اجزم أن... حقن أكسير الحياة أنعشت عروقها الهرمة. لم تبد أي تعليق على مزحته السخيفة (بنظرها)، لأنه لا سبيل لإطفاء نيران تتأجج من رؤية جمال الحياة، ببرودة أحاسيس تجمدت منذ زمن بعيد.


الشرفة الشمالية اليوم الثالث

يتابعان الشمس، التي تلملم أطرافها للغروب باستغراق وخشوع، من الشرفة التي تطل على المدينة التي اتسعت... كبرت... معهم خطوة... خطوة. بينما الشمس تغادر خجلى محمرة الوجه من هول ما كشفت من خبايا النفوس... خفايا الأسرار. توارت ملقية وشاحا احمر بوجه مدينة لا تخجل من أمراضها المتفشية.

- هل أحلام الأثرياء... نزوات تجعل من الترف حاجة ملحة!

تساؤل خبيث يرفعه أهل المدينة، ولطالما تتسمر أرواحهم حسدا قبل أبصارهم، عند رؤية التحفة الفنية لبناء، القصر الزجاجي حيث الجميع يسعى للهدف المنشود (الثراء) بلا هوادة.

بينما الوشاية المجحفة بتاريخ صاحب القصر تنتشر كالنار بالهشيم، عن مصدر المال... نماؤه المتزايد بكل ثانية تولد وتموت.


النهاية

مازالت تشعر بالرعب من منظره عندما خرج مذعورا من المغطس، الذي صمم على شكل محارة مبطنة بالمرايا في وسط القصر، حيث باستطاعة الشخص المستحم أن يرى الجميع دون أن يرى في خلوته... ووقف أمامها عاريا مستهجنا... غاضبا صائحا:

- لماذا تراقبينني بنظراتك الوقحة؟

ردت عليه مدافعة عن نفسها بقوة تهز رأسها رافعة إصبعها:

- لم افعل وكيف لي أن افعل... تعال قف هنا في مكاني... سأدخل المغطس وانظر هل تستطيع رؤيتي!

خجل من نفسه لهذا الاتهام غير العادل. أدرك انه استاء كثيرا من رؤيته لجسده، وكيف أن جسمه استحال بزغب ابيض ناعم وآثار الشيخوخة داهمته بوحشية... دون رحمة:

- لولا تلك المرايا الكريهة لبقي الوضع! كما يظن!

يتمتم مطاطئ الرأس كطفل يشعر بالخزي من سوء ما فعل. ألبسته ملابسه بانهماك وتصميم... تزم شفتيها:

- خوفا على قدراتك العقلية سنمضي بعض الوقت!

تشير... هناك... يمشي وراءها هائما، بينما هي تمشي مرفوعة الرأس متألقة بإشراق رصين... متجهان إلى القصر الصغير أسفل الربوة في الجهة الشرقية مشدوه النظرات... خائفا... وإشعاع أصفر ينبعث من عينيه الثاقبتين... بصوت هامس حزين:

- خوفا على قدراتك العقلية

يرددها وهو يتلفت حوله ضاحكا... يضربها على مؤخرتها... مرددا بصوت اشبه بالصياح... بنوبة جنونية:

-خوفا على قدراتك العقلية!