بدأت الانتفاضة المصرية الرائعة شبابية، أطلقتها مجموعة كبيرة من شباب الانترنت الذي لم يجد وسيلة أفضل للتعبير عن همومه اليومية وإحباطاته الحياتية، والمطالبة بأحلامه المسروقة، وتأمين مستقبله التائه في بحور من الفساد والتعنت الحكومي، والفقر المادي والمعنوي، والبيروقراطية المتأصلة في مكاتب المصالح الحكومية، والتعذيب والظلم القابع في سراديب أجهزة الأمن بمختلف مسمياتها.
كما وجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة من اللاءات المحبطة فلا علم ولا عمل، ولا كرامة ولا أمل، لا صحة ولا علاج، لا نظافة ولا خدمات، لا احترام ولا أحلام، لا أمن ولا أمان، ورأوا أن ليس هناك ما يخسرونه سوى أرواحهم التي هي بيد الله عز وجل يقبضها متى يشاء. فانتفضوا، وكسروا حاجز الخوف الذي يملء نفوس الكثير من الشباب العربي الذين رضعوه مع حليبهم منذ الصغر ليدخل في تركيبتهم النفسية ويصبح صفة أساسية وواضحة في السمات الشخصية لعدد من الأجيال العربية في بعض البلاد العربية التي مرت بتجارب أمنية مريرة وقاسية كانت كفيلة بتحويل هذه الأجيال إلى ناقل جيد لهذا الجين الكريه وبدرجة امتياز للأجيال المتعاقبة.
وقد أثارت هذه الانتفاضة الشبابية براكين الغضب في نفوس جميع طوائف الشعب المصري وعلى اختلاف طوائفه السياسية ومستوياته الثقافية وطبقاته الاجتماعية بعد أن ظن الجميع أنها براكين أصبحت خامدة منذ زمن بعيد وغير قابلة للفوران مجدداً، وحركت مشاعر الخجل عند كل من استكان لوطئة الأيام، أو استسلم خوفاً على حياته، أو فقد الأمل بغد أفضل، فتحولت إلى انتفاضة شعبية سلمية توحدها الأهداف والمطالب، وتغذيها مرارة الماضي القريب والأمل بمستقبل مقبل.
وأثبتت هذه الانتفاضة أن لإرادة الشعب الكلمة العليا في تسطير التاريخ وتحديد المصير، وأن القدر لن يستجيب لإرادة شعب إن لم تكن مرهونة برغبة هذا الشعب الملحة بحياة كريمة عليه أن يسعى هو ليكتسبها ولا ينتظر أن تهدى إليه، وأن للإرادة الشعبية شروطا يجب أن تتوافر لتدفع بالأقدار حيث تريد، أولها أن تنبع من القاعدة العريضة للهرم والمتمثلة بالجماهير الشعبية التي كلما كانت أكثر وعياً وتنظيماً وتماسكاً كانت أكثر قدرة على فرض إرادتها على قمة الهرم المتمثلة بالسلطة ومؤسساتها التشريعية والتنفيذية، كما يجب أن تكون هذه الإرادة الشعبية مستقلة وبريئة من التحزب والتكتل وبعيدة عن أي أطماع سلطوية، وأن تكون الأحزاب والتكتلات السياسية مجرد صلة وصل بين الشعب والسلطة لقياس مستوى نبض الشارع تجاه السياسات العامة للدولة.
كما أثبتت انتفاضة الفراعنة وقبلها انتفاضة التونسيين أن الشعوب العربية ما زال بها رمق للحياة وليست أي حياة بل الحياة الكريمة، ومازالت صالحة للعيش وليس أي عيش بل العيش بكرامة، وما زالت قادرة على أن تنفعل فتثور لعزتها مهما أذلت،وأن تتفاعل فتنهض من كبوتها مهما طالت، وأنها صبورة جداً على الزمن شديدة كثيراً على المحن، وأنه يمكنها أن تحلم وتحاول أن تحقق حلمها، وأنها قادرة على أن تتعلم بنفسها لتمحو أمية كبار الساسة، وأنها تعرف كيف تمارس آدميتها مهما داستها النعال، وأنها حية ترزق مهما لفوها بالأكفان.
وقد بعثت هذه الانتفاضات العربية الشعبية برسائل مهذبة وسلمية وفي غاية الوضوح، لكل من وصل إلى كرسي الحكم فتملكه، وكل من حكم بالظلم واستمرأه، وكل من استخف بصبر الشعب فأذله، وكل من ذاق طعم التسلط فأعجبه، وكل من تبجح بحق الشعب فأهدره، وكل من تغنى بالمجد فأضاعه، وكل من تمكن من مقدرات شعبه فسرقه، أن انتبه، فالرحى تدور بسرعة والعدوى تنتشر بقوة والنار تسير في الهشيم كسريان الدم بالوريد، والحكمة العربية تقوم يوم لك ويوم عليك، فتجنب أن يمر عليك هذا اليوم طويل اللحظة، شديد الوطأة.
ولعله من الذكاء الآن أن تأخذ حكومات بعض البلاد العربية المحتقنة والقابلة للانفجار في أي لحظة، التدابير السياسية الوقائية المنتقاة بعناية شديدة والكفيلة بإيقاف النار وتحجيمها إذا ما شبت، لا أن تكون وقوداً لها تزيدها لهيباً واستعاراً، وتسارع بإجراء إصلاحات سياسية سريعة وبمستوى عالٍ من الجدية تناسب تطلعات الشعوب العربية ومتطلباتها، على أن تكون إصلاحات جوهرية وأساسية في صميم المؤسسات الحكومية وقوانينها لا أن تكون شكلية ومستفذة، وعليها أن تعطي شعوبها حق قدرها فلا تستهون بقدراتها ولا تستخف بوعيها ولا تستنفر كبتها، ولتعلم تلك الحكومات بأن التجارب السابقة أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن الشعوب العربية لا تريد الحياة فقط، بل أنها شعوب تهوى الحياة وتسعى بكل قوتها لأن يستجيب لها القدر.
مها بدر الدين
كاتبة سورية
[email protected]