مقال / صلاح جاهين حيّاً

1 يناير 1970 02:07 م
| ابراهيم صموئيل |
يحقّ له، في مفتتح الكتابة عنه، أن يُقال: من لا يعرف صلاح جاهين؟! فنانٌ عملاق موهوب كهذا، وانسان حقيقي صادق مثله... يصعب أنْ يُجهَلَ. يصعب ألا يكون أي قارئ قد شاهد بعضاً من رسومه الساخرة، أو قرأ عدداً من قصائده، أو استمع الى أشعاره! يصعب ذلك، لأن صلاح جاهين، ورغم مضي ربع قرن على رحيله 1930- 1986، فانه لا يزال كفنان كاريكاتير حاضراً بقوة وبهاء في ذاكرة الثقافة العربية، كما لم تزل أشعاره التي ظهرت في ديوانه «رباعيات» العام 1963 راسخة، حية، في القلب والوجدان لكل من عرفه وتابع ابداعاته.
ولعل من حق هذا المبدع أن يُرى من جوانب كثيرة، لأنه كان شخصية متعددة المواهب، فهو رسام كاريكاتير، وشاعر، وكاتب سيناريو، وصحافي أيضاً، بل انه توّلى رئاسة تحرير مجلة «صباح الخير» العام 1967 جراء طلب من الكاتب المعروف أحمد بهاء الدين، وبذلك يكون أول رسام كاريكاتير عربي يتولى رئاسة مجلة.
وقد كُتب في هذا المبدع الكثير من المقالات والدراسات، وشغلت أعماله الابداعية ومواقفه السياسية العديد من الآراء التي تعارضت حيناً وتوافقت حيناً آخر... الا أن فناننا ظل علامة بارزة، وقامة عالية أغنت ثقافتنا، وعمّقت ذائقتنا، وذلك بسبب من أصالته في حقل الفن، وانتمائه الى الهموم العربية، ومواكبته للمشاكل والأزمات الكبرى التي شهدنا فصولها على مدار عقود من حياتنا.
صلاح جاهين كان منتمياً بقوة الى الناس «الغلابة» المفقرين والمظلومين في معيشتهم، والحالمين التواقين في حيواتهم، بحيث جاءت رسومه الساخرة تعبيراً صادقاً عمّا يعانونه، خصوصاً وأنه قد امتلك عيناً فاحصة، مدقّقة، ترى ما خفي من المظالم، وما ضُمر في القلوب من أحلام. رسومٌ تتسم بالاختصار الشديد للخطوط، والتعبير المكثّف، والمفارقات الصارخة في آن معاً. رسوم تروي، في مجموعها، وقائع تاريخ عشناه من أصغر مفصل الى أكبر منعطف سياسي اجتماعي واقتصادي.
وحين قامت ثورة 1952 في مصر وجد جاهين في ذلك الحدث ما كان يحلم به، فانخرط في تأييد الثورة، وكتب عنها وعن زعيمها عبد الناصر، وبشّر بالمستقبل البهي تحت ظلالها، وذلك عبر العديد من قصائده ورسومه ومقالاته. غير أن نكسة يونيو 1967 نهشت جزءاً كبيراً من حلمه ومن تفاؤله ومن أمله، فخاب الفنان وانكسرت روحه ووقع في جرف اليأس والاكتئاب الى أن اضطر للسفر الى موسكو في العام 1971 لتلقي العلاج النفسي من مرض كآبته.
واذا كان من شأن الاكتئاب أن يقبض على أرواح ضحاياه فيشلها، أو يسلب طاقتها الى أقصى حد... فانه لدى فنان مرهف، بالغ الحساسية، مترع القلب بالآمال الكبرى مثل صلاح جاهين يشكّل الاكتئاب كابوساً ملازماً لحياته ونتاجه. ظلاً ثقيلاً لا ينفك عنه. فبعد تحليقه في فضاء الحلم والأمل والاستبشار بالمستقبل، وجد نفسه مهيض الجناح على أرض نكسة بل هزيمة فرشت ظلالها السوداء على كل الكتّاب والرسامين والمفكرين والمبدعين عموماً.
ان مأساة صلاح جاهين تكمن في أنه وهب كل فنه وأدبه وروحه وحتى حياته الشخصية للحلم بمستقبل أفضل لبلاده ولناسه، ثم جاءت الوقائع والأحداث على خلاف حلمه تماماً، فكسَّرت روحه وأدخلته في كآبة لم يخرج منها الى أن وافته المنية.
ولعل ما يعزينا في ذكرى أفول حياة هذا الفنان الكبير، أن مبدعاً مثله لا يغيب عن وجدان وذاكرة كل من تابع أعماله الفنية رسماً وشعراً، بل هو لا يغيب عن المساحة الأبهى في المشهد الثقافي العربي الحديث والمعاصر كله. هو لا يغيب لأن أشعاره في «الرباعيات» تتردد على ألسنتنا دوماً، ولأن رسوم الكاريكاتير الساخرة التي زيّن عيوننا بها لا تزال مرافقة لنا، نحن الذين نتألم كل يوم، ونظلم كل يوم، ونجوع كل يوم... ثم نعاود الحلم والأمل والرنو الى المستقبل حتى ولو من قلب الظلام.