مقال / رجاء النقّاش

1 يناير 1970 09:29 م
| إبراهيم صموئيل |

مع تغييب الموت لجسد رجاء النقاش يدرك المرء، مرة بعد أخرى، أن قامات سامقة مثل قامته لا يمكن أن ينال منها الرحيل. تبقى، كما كانت، حاضرة حضوراً قوياً في الذاكرة والحياة الثقافية العربية كوشم لا يُمحى.

يكفي ذكر اسمه لتذكّر مرحلة ثقافية أدبية عريضة، شهدت حوارات وسجالات ومدارس واتجاهات، وشهدت بزوغ مواهب حقيقية عمل النقاش على تقديمها وتعريف القراء على نتاجها كزهور مبكّرة في حقل ثقافتنا الذي سيمتلئ بها ويملؤنا بعطائها الى اليوم.

ومن حق رجاء النقاش على العديد جداً من الكتّاب والمبدعين العرب الاعتراف له بفضله في تقديمهم وتظهيرهم بما يستحقون، والعمل على اضاءة أدبهم من الشاعر محمود درويش الذي صار العلم الشعري الأبرز في حياتنا الى القاصّة سميرة عزام التي جاهد النقاش في رفع الحيف النقدي والاهمال المخجل اللذين نالا أدبها وريادتها في القصة القصيرة العربية، مروراً بالشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، والروائي الطيب صالح وغيرهم الكثير ممن تعرّفنا الى أدبهم وكتاباتهم بفضل الجهد النقدي والوفاء الانساني النبيل لرجاء النقاش علاوة بالطبع على ما في ابداعاتهم من امكانات كبيرة للحياة والاستمرار.

ولقد هزَّ أعماقي ما جاء في رسالة محمود درويش الى رجاء النقاش في حفل التكريم الذي جرى لناقدنا في نقابة الصحافيين بمصر: «منذ جئت الى مصر أخذتَ بيدي وأدخلتني الى قلب القاهرة الانساني والثقافي، وكنتَ من قبل ساعدت جناحيَّ على الطيران التدريجي فعرّفت قراءك عليَّ وعلى زملائي القابعين خلف الأسوار».

هزَّت رسالة درويش أعماقي ليس فقط للعرفان النبيل بالفضل الذي جاء فيها، وانما أيضاً لحق النقاش في أن يُعترف له ممن أخذ بأيديهم وعرّف القراء بأدبهم وساعد أجنحتهم على الطيران، كما من حقه أن يُعترف له بالفضل في منح حياتنا الثقافية - نحن القراء العرب - نكهة مميزة فريدة أبدع رجاء النقاش في توفيرها وادامتها في ذائقتنا حتى اليوم.

بالطبع، لا يمكن تجاهل حقيقة مفادها أن رجاء النقاش قد جاء في المرحلة الذهبية لنشاط وازدهار الحياة الثقافية العربية المعاصرة في الستينات والسبعينات والثمانينات، بيد أن من الحق القول ان «ذهبية» منهجه النقدي، وواقعية رؤيته، وصفاء أسلوبه، وتبسّطه في طرح أفكاره، ودأبه على تقريب النصوص من القراء، والكشف عن مواطن الابداع فيها... قد ساهم، الى جانب جهود نقاد وكتّاب غيره، في وسم تلك المرحلة بالسمة الذهبية.

والحديث عن الدور النقدي المهم لرجاء النقاش يطول ويتشعب بلا شك، غير أن الأبرز والأثمن والأدلَّ في ذلك الدور، كما أعتقد، حرص النقاش على النص المتناول أو المدروس حرص الوفي العامل على تفتيح النص أمام القارئ وتظهير امكاناته وجديده ليصبح قريباً جداً من القارئ، يدخل الى ذائقته ووجدانه فيصادقه، وبذا كان ناقدنا يُسخِّر كل امكاناته الثقافية وملكاته وحساسية ذائقته لخدمة النص ولافادة القراء. لم يركب نصوصاً، كما يجري اليوم، ولم يتخذ منها ذريعة، مجرد ذريعة، لتقديم نفسه وتفلسفه والزج بمصطلحاته العويصة الغامضة، وحشد تعبيراته الفارغة سوى من ألفاظها بحيث يتوه القارئ عمّا يُكتب أو يُحكى وتضيع الغاية من العملية النقدية، ليجد القارئ نفسه، اذ يسعى لمعرفة النص عبر النقد، تائهاً مضيّعاً مستلباً تماماً بفضل الناقد الحصيف! مثلك يا رجاء لا يغيب حضوره ولا فضله أبداً من قلب ووجدان وذاكرة القراء.