مها بدر الدين / باي باي سودان

1 يناير 1970 01:32 ص
مع بدء الاستفتاء حول انفصال الجنوب السوداني عن السودان الأم، بدأ العد التنازلي لولادة دولة جديدة في القارة الأفريقية تحمل الرقم 54، وتحمل مع رقمها طموحاً وآمالاً وأحلاماً لا يعرف سوى الباري عز وجل، إن كان أهل الجنوب سيعيشونها في الواقع أم انها ستتحول لكوابيس مزعجة تقض المضاجع.

وبقدر ما يسعد هذا الانفصال الجنوبيين، فنراهم يهللون ويهتفون ويتبادلون التهاني ويقيمون الأفراح والليالي الملاح، بقدر ما يحزن كل مواطن عربي أصيل هذا التفكك والتشرذم الذي لن يزيد العرب سوى ضعف على ضعف، ولن يزيد السودان سوى فقر على فقر.

فالسودان عربي الأصل والحضارة أفريقي الموقع والواقع، وهو بلد غني جداً بالثروات الطبيعية العذراء العالية الجودة والمتباينة بالتوزيع، ويتمتع بأرض شاسعة المساحة متنوعة التضاريس ومختلفة الكثافة السكانية، وبأطياف بشرية متعددة الأديان والأصول ومتنافرة العقائد والمعتقد، ويظهر الفرق جلياً بين شماله المزدهر وجنوبه المتدهور، ما أهله ليكون مسرحاً لحرب أهلية طويلة الأجل أُحرق فيها الأخضر واليابس، ومرتعاً خصباً لأحلام الطامحين للسيادة والسلطة وأطماع الطامعين بالغنى والسطوة، وأصبح مرمى أهداف محبي العاج الأبيض والذهب الأصفر والنفط الأسود المخبأ في بطن الجنوب السوداني.

هذا الخليط من العوامل المتداخلة في الفسيفساء السوادنية بغير انسجام، والافتقار إلى نظرية دمج ألوان الطيف بنسب متساوية لتعطينا اللون الأبيض الناصع، وعدم وجود الفنان الذي يفطن لقاعدة أن الضد يظهر حسنه الضد، فيوظف الأضاد لخلق لوحة تتنوع ألوانها وتتوحد خطوطها، سمح للأيدي الغريبة التدخل في رسم لوحة السودان الحديث كل حسب رؤيته، فتحولت إلى لوحة سريالية مبهمة يصعب على الناس العاديين سبر أغوارها الغامضة وفك رموزها المتداخلة ومعرفة أسرارها المخبأة.

أما العارفون ببواطن الأمور فيدركون أن للدول الغربية أطماعها في السودان تتمثل سياسياً في تقسيمه إلى أقاليم ليسهل عليها الاستفادة من كل إقليم بحسب مقوماته التي يتمتع بها، واقتصادياً تسعى لفصل المناطق الغنية بالثروات الطبيعية فتتركز عمليات الاستثمار في هذه المناطق وتشيد جسوراً بينها وبين الوطن الأم لنقل أرباح الثروات السودانية المكنونة، ودينياً تسعى هذه الدول لفصل الشمال ذي الأغلبية المسلمة عن الجنوب الذي تسود به المعتقدات المحلية، للحد من انتشار الإسلام في القارة السوداء وتنشيط عمليات التنصير القائمة هناك على قدم قوية وساق أقوى.

لعلنا نفهم جيداً هذه السياسة الاستعمارية التي لم تختلف أصولها منذ عرفت بلاد العرب الاستعمار الغربي لأراضيها، وأنه تحول من استعمار عسكري إلى استعمار سياسي واقتصادي، لكن الذي لا نفهمه الغياب الجلي للدور العربي في هذه البقعة المتناسية من الوطن العربي، واللا مبالاة العربية تجاه تقسيم الكيكة السودانية تحت مرأى حكامنا الأشاوس وكأنهم لا يستسيغون طعمها فيتركونها لقمة هنية للطامعين بها، ولا نفهم التقاعس الواضح من الجامعة العربية في أداء دورها المنوط بها وهي التي أنشئت بهدف تجميع الدول العربية تحت مظلة قومية عربية شعارها «أمة عربية واحدة»، ومهمتها الأولى رأب الصدع العربي في أي بقعة من بقاع الدول العربية الأعضاء فيها ومنها طبعاً السودان.

فلم نسمع خلال الأربعين عاماً الماضية من عمر السودان المثخن بالجراح والحروب والانفلات السياسي والعسكري فيها، عن أي مساع جادة للجامعة العربية لإيجاد حلول لمشاكله المستمرة والتوصل مع أطراف النزاع لحل يرضيهم جميعاً ويكفل للسودانيين العيش الكريم في أجواء سليمة وسالمة ومسالمة، ولم نلحظ لها أي تحرك حيوي وفعال لإثناء القطبين السودانيين الشمالي والجنوبي عن فكرة الانفصال السياسي والجغرافي والاقتصادي، بل انها حاولت تدعيم هذا الانفصال بتصويره وكأنه خطوة عربية متحضرة نحو الاعتراف بحرية الشعوب في تقرير مصيرها، وأنه مظهر من مظاهر الديموقراطية التي تطالب الدول العظمى البلاد العربية بانتهاجها، وربما كانت سعيدة بأن عدد أعضائها سيزيد عضواً إذا أعلن الجنوب السوداني المنفصل عروبته.

كما لم تكن مواقف الدول العربية القيادية بأحسن منها، وتحديداً جمهورية مصر العربية التي تربطها مع السودان روابط جغرافية واجتماعية وتاريخية مهمة على مدى التاريخ، فالسودان وقع تحت الحكم المصري لفترة طويلة واشتركا معاً في تاريخ سياسي طويل، وغزل الشعبان المصري والسوداني نسيجاً اجتماعياً متداخلاً ومتماسكاً، كما أن السودان يعتبر الامتداد الطبيعي للقطر المصري داخل القارة الأفريقية حيث يجمعهما نهر النيل الذي يمر قسم كبير وغني منه في الأراضي السودانية خصوصاً في الجنوب منها، فكيف لمصر أن تغامر بترك مصدرها الحيوي والطبيعي الذي تقوم عليه في خطر لا يعرف حتى الآن كيف سيكون حجمه، وكيف تترك عضواً من أعضاء الجسد العربي يسقط سهواً من الخريطة العربية وهي التي تتشدق بدورها القيادي للدول العربية.

وان كان أهل الجنوب تحديداً يسعون لهذا الانفصال حالمين ببناء دولتهم الجديدة الحديثة بعيداً عن تعسف الشمال وغطرسته وافتقاره للعقل المدبر والفكر المخطط، فهل ستضطر الشعوب العربية آسفةً لقول قولهم: باي باي سودان؟





مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]