مها بدر الدين / قيمة الوطن بالعملة الصعبة
1 يناير 1970
01:30 ص
ما أن أعلن في مصر عن كشف خلية تجسس لصالح الموساد، كان بطلها شاب مصري ينتمي إلى الطبقة الفقيرة من الشعب المصري، الذي يعيش أكثر من ثلثيه تحت خط الفقر، حتى أعلن في دول أخرى عن محاولات موسادية ملحة لتجنيد بعض من الشباب العربي، لخدمة هذا الجهاز الذي تعتمد عليه إسرائيل بشكل أساسي في تعاملها مع المحيط الخارجي لها، وبدا واضحاً محاولة الموساد خلق شبكات تجسسية تغطي كل شبكة منها عدة دول في وقت واحد.
ومع تقدم التكنولوجيا وتنوع وسائل الاتصال وزيادة أهميتها اختلفت المعايير والمقاييس التي تعتمدها لانتقاء المجندين لحسابها، فبعد أن كان التجسس يركز على المجال العسكري للدولة توسع نطاقه ليشمل المجالات الاجتماعية والاقتصادية والمعلوماتية، ومن هنا ظهرت الحاجة لمجندين ينتمون إلى فئات وشرائح مختلفة من مجتمع الدولة المستهدفة لتقديم معلومات متنوعة تستفيد منها في إعداد خططها المستقبلية تجاه هذه الدولة، وظهر واضحاً أن عدد المجندين لحساب الموساد في معظم الدول العربية في تزايد بينما المجندون لحسابنا في إسرائيل في تناقص، ومرد ذلك التباين الواسع بين الطرفين في تبني الحكومات لسياسة التخطيط البعيد المدى من جهة، وقوة الانتماء الوطني من جهة أخرى.
فعلى الصعيد الحكومي نرى أن دولة إسرائيل الوليدة رغم تعثر ولادتها وعدم شرعية وجودها داخل البيت العربي، إلا أنها تحاول إثبات نسبها للمكان الذي اغتصبته لنشأتها وشيدته لمواطنيها وتسعى جاهدة لحمايته من كل من يتربص به، فكان استعدادها الأمني في حالة نشاط دائم لم يهدأ ولم يركن لإداركها بأن وجودها غير مرغوب فيه، ولم تستطع معاهدات السلام التي وقعتها مع الجارين العتيدين مصر والأردن والعلاقات الطيبة التي تربطها مع معظم الدول العربية من أن تطمئنها وتهدأ روعها فتحد من نشاطها المخابراتي في هذه الدول، بل أنها كثفت هذا النشاط لأن الحالة السلمية أصبحت مهيأة أكثر للتواصل والاتصال الحر والمباشر بين الطرفين، وهو ما يدعم نظرية أن عمل الاستخبارات لا سلام فيه ولا صداقات، وأن المعلومات الاستخبارية وقت السلم أفضل وأهم بكثير من المعلومات الاستخباراتية وقت الحرب حيث تنشط لزمن محدد بفترة الحرب وتتركز بالمجال العسكري، في حين أن المعلومات السلمية تعتبر بيانات قاعدية ومتنوعة تتناول مختلف النواحي وتتعرف على نقاط الضعف والقوة فيمكن الاستفادة منها على المدى البعيد وتوظيفها في عمليات التخطيط و تعزز الأمن القومي لدولة إسرائيل.
بالمقابل نجد أن الحكومات العربية قد تكاسلت عن تفعيل دور هذا الفرع الرئيسي من أفرع الأمن القومي، والذي تعتمده جميع دول العالم في حربها وسلمها، وتناست أن الكيان العربي قد ابتلي بسرطان خبيث في سويدائه يتحين الفرصة تلو الفرصة للانتشار في أوصاله والقضاء على أعضائه الحيوية، وأن تلك المعاهدات السلمية ليست سوى مسكنات تسكن الألم لحين انتهاء مفعولها، ولم يلاحظ أي نشاط استخباراتي عربي خارجياً بينما نراه «ماشاء الله» نشطاً داخلياً، فقد برعت أجهزة الاستخبارات باختلاف مسمياتها، بالتنصت على همسات المواطنين وسكناتهم، وتتبع مسار النشطاء والمعارضين وحركاتهم، ورصد جموع المواطنين الباحثين عن لقمة العيش ولهاثهم، وأصبحت كتابة التقارير لأجهزة المخابرات تجارة رائجة وباباً للرزق يفتح للمجندين من الداخل على الداخل، وهو ما يدل على افتقار هذه الحكومات للفكر الاستراتيجي الذي يتبنى سياسة التخطيط البعيد المدى ومبدأ جمع المعلومات وتحليلاتها وتوظيفها لوضع الخطوط الأساسية للتنمية والأمن والدفاع عن الوطن.
أما على الصعيد الشعبي فنجد أن الشعب الإسرائيلي رغم تنوعه عرقياً واختلافه ثقافياً وعدم انتمائه للمكان تاريخياً، إلا أنه يشكل نسيجاً متشابكاً متضامناً، تكثر فيه الألوان وتنساب به الخطوط، وهو الشعب الوحيد الذي يضم تحت لوائه مواطنين مختلفي الأعراق والأمصار، متوحدي الدين والمسار، فكان انتماؤهم للدين اليهودي الذي يجمعهم أولاً ولإسرائيل التي لمت شملهم بعد الشتات ثانياً، فهي بالنسبة لهم الدولة اليهودية الوحيدة التي استطاعوا أن ينتزعوها بمخالبهم ويبنوا عليها كيانهم، وقد عززت الحكومة الإسرائيلية هذا الانتماء لدى مواطنيها فقدمت لهم حياةً ديموقراطيةً سياسياً، ومرفهةً اقتصادياً، وحرةً أجتماعياً، ومتطورةً تكنولوجياً ونووياً، مما انعكس بالإيجاب على مستوى انتمائهم واستماتتهم بالدفاع عن عقيدتهم، فأصبحوا علينا عصيي التجنيد، لا تغريهم رائحة الدولار لبيع وطنهم الصغير المصنوع يدوياً.
في حين أن الانتماء الوطني العربي في أدنى مستواه بين الشباب العربي الذي يعاني من إحباطات حياتية وعملية وعلمية يومية كفيلة بأن تقضي على أي أمل له في العيش الكريم داخل وطن لا يقدم له أبسط مقومات الحياة الطبيعية، فالبطالة في تزايد مستمر تفتك بشبابنا، وعدم القدرة على الزواج تدفعهم إما إلى الانحراف واما الى الانتحار البدني أو النفسي، والشعور بالدونية مقارنة بالطبقة المخملية في المجتمع يثير فيهم روح النقمة وعدم الرضا وهو ما يجعلهم فريسة سهلة للوقوع في شباك أجهزة المخابرات كالموساد الذي يسعى لتجنيد أمثال هؤلاء الشباب لحسابها مستغلة ظروفهم الاجتماعية ونقمتهم من أوضاعهم السيئة.
إن الانتماء شعور فطري يولد مع الإنسان، لكنه يحتاج إلى رعاية واهتمام ليكبر ويقوى ويستطيع الوقوف في وجه أي محاولات لتغيير اتجاهه وتتمثل هذه الرعاية بكفالة الحياة الكريمة، وضمان الحريات والحقوق، وتكافؤ الفرص في العلم والعمل، وحفظ الكرامات وتنوير العقول، أما الحرمان والحاجة والتهميش والترهيب فيؤدي إلى النقمة التي قد توصل البعض لبيع الوطن بحفنة من الدولارات.
مها بدر الدين
كاتبة سورية