د. بثينة شعبان / قرار رئاسي
1 يناير 1970
06:28 ص
في عطلة اليوم الأول من عام 2011، يجتمع شمل أفراد العائلة جميعاً، فيلتقون حول وجبة الغداء، أو ربما حول إبريق من الشاي يجمع في حرارته حرارة القلوب وسعادتها بفرصة اللقاء والوصال، بعد طول فراق بسبب العمل، أو الدراسة، أو السفر، وبعد أن تشبع حاسة تبادل الأحاديث والتطلعات والأماني للعام المقبل، يقترح أحد أفراد العائلة مشاهدة فيلم كي تستمر حميمية الجلسة المشتركة، التي لاتحدث إلا مرة أو مرتين في العام على الأكثر. يقع الخيار على فيلم يُعرض على شاشة فوكس للأفلام بعنوان «قرار رئاسي»، ويأخذ كل مكانه استعداداً لمشاهدة هذا الفيلم الأميركي، الذي يبدو منذ البداية بأنه فيلم سياسي، دعائي، موجه ضمن حملة نشر الكراهية ضد العرب والمسلمين. فبعد مظاهر العلاقات الإنسانية الجميلة بين أفراد الطاقم والركاب وعوائلهم، تتضح الصورة بأن هذه الطائرة التي تُقلّ أكثر من مئتي راكب متوجهة الى مطار دالاس في واشنطن وعلى متنها جهاز تفجير نووي تنقله مجموعة ارهابية تختطف الطائرة، وتضع شروط اطلاق سراح إرهابيين آخرين، بعد أن تقتل بدم بارد مضيفة الطائرة الجميلة وبعض الركاب الأبرياء، وتحاول بالمراوغة الوصول الى مبتغاها. ولم يمضِ وقت طويل قبل أن يصبح الأمر واضحاً، أن أفراد هذه المجموعة الارهابية التي تتسم بالقسوة والدموية، هي من العرب المسلمين، فبعضهم يصرخ ويتحدّث بالعربية للبعض الآخر، كما أن مخرج الفيلم حرص أن يُري أحد الارهابيين يسلّم قرآناً للإرهابي الآخر ويقلب بعض صفحاته. لم يتردّد هؤلاء عن قتل عضو كونغرس حاول لعب دور الوسيط في التفاوض، وحين احتدمت المعركة لم يتردّد أحدهم في قتل قبطان الطائرة ومساعده. وشوهدت الطائرات الحربية الأميركية وهي تطير قرب وأمام الطائرة، وكان خيار تفجيرها بالجو وارداً كي لايصل الارهابيون الى أي مطار في الولايات المتحدة حماية لمئات الألوف من المدنيين!
هذا هو أحد الأفلام التي تنتجها هذه الأيام مؤسسات هوليود عن العرب المسلمين، وما أكثرها، وتحرص على وضعها على شاشاتها في أعياد الميلاد ورأس السنة، حين يلتقي المليارات من البشر حول التلفزيون، كي تحظى بأكبر عدد من المشاهدين، بهدف غرس الكراهية والعداء في نفوسهم وأذهانهم للعربي المسلم الذي يعرض عبر مختلف وسائل الإعلام الغربية التي يمتلكها صهاينة متعصّبون، ويمينيون متطرفون دينياً وعقائدياً خلال السنوات الماضية، كإرهابي، ودموي، ومتعصّب، يعمل على خطف الطائرات وقتل ركاب أبرياء، ولذلك يصبح قتله مبرراً في الواقع الفعلي، بل يصبح واجباً على من يريدون إنقاذ البشرية من هذا الخطر « العربي المسلم » الداهم. وهكذا تترسّخ هذه الصورة في أذهان مئات الملايين في الغرب الذين لايفرّقون بعد ذلك بين صورة العرب المتهمين باختطاف طائرة مدنية في الأفلام، وبين ضحايا الحروب الأميركية والإسرائيلية من المدنيين العرب الأبرياء الذين تحتل الجيوش الغربية الغازية بلدانهم، وتستوطن أرضهم، وتنهب مواردهم، وتهدم منازلهم، ويقتلون كل يوم بالعشرات على أيدي عصابات عنصرية استيطانية تغطي أعمالها بتشويه صورة ضحاياهم من العرب في وسائل الإعلام التي يمتلكها المال الصهيوني، والذي ينتج هذا السيل الجارف من الأخبار، والمقالات، والكتب، والبرامج، والمناهج المدرسية، والأفلام، والمسلسلات المعبأة بالكراهية ضد العرب المسلمين، بحيث يصبح من الصعب جداً تصحيح هذه الصورة، خصوصاً وهي متواصلة منذ أكثر من مئة عام، حيث تواصل هوليوود تقاليدها العنصرية باستهداف العربي وعرضه دوماً في أفلامها كشخص عنيف، وغادر، ووغد، ومتخلّف، ومن جهة أخرى فإن السينمائيين العرب لم يبذلوا الجهد والوقت والمال لمقاومة سموم الكراهية التي تبثها أفلام هوليوود عن العرب المسلمين وذلك بإنتاج أفلام بديلة تتحدث عن الواقع الفعلي للعرب وحقوقهم، ودينهم الحنيف، ومعاناتهم من الحروب الغربية، والاحتلال الإسرائيلي، ومن جرائم الإبادة، والعنصرية، والاغتيال، والتعذيب في غوانتانامو وأبو غريب وبوكا على أيدي المخابرات الإسرائيلية والغربية مثل الموساد، والشركات الإرهابية كبلاك ووتر، وغيرها الكثير.
ويمكن اعتبار الراحل مصطفى العقاد أول عربي يلتفت الى هذه المهمة الشاقّة والمهمة في آن بحيث أخرج فيلم «الرسالة»، و عمر المختار « وغيرهما، والذي شكّل في الولايات المتحدة مرجعية مهمة عن العرب المسلمين تمّ عرض أفلامه لطلبة الجامعات، حيث تتم مناقشتها في حلقات بحث شكّلت بحد ذاتها تصحيحاً مهما للصورة المشوّهة للعرب المسلمين في أذهان الأميركيين والغربيين.
لهذا السبب بالذات، طالته يد الارهاب حين تم تفجير حفل العرس الذي دُعي لحضوره في الأردن دون كل حفلات الأعراس الأخرى! وبذلك توقّفت هذه المسيرة التي حاول فيها معالجة نقص مهم في السينما العالمية وتقديم العرب المسلمين بشكل حقيقي، يناقض كل محاولات التشويه التي تميّز كل الأفلام الأخرى التي تُنتج في هوليوود. والمشكلة هي أن الأثرياء العرب لا يستثمرون المال للتصدّي لإنتاج الأفلام على خطى مصطفى العقاد، التي تُبرز حقيقة حضارة العرب، ومساهماتهم التاريخية، وجوهر تعايشهم السمح والغني بالقيم الإنسانية، وبدلاً من ذلك يستثمرون في الفنادق والملاعب والمضاربات في البورصات، ولايستثمرون في صناعة الأفلام، والتي بدورها تدرّ أرباحاً وفيرة أيضاً، ولكنها تقدّم خدمة حضارية لأمّتهم نحن بأمسّ الحاجة اليها في وجه الأموال الصهيونية الهائلة التي تتخذ من العربي ودينه، وعمله، وأخلاقه، مادة بخسة تشوه صورته وتفرزه كائناً بشعاً بعيداً عن كل الأعراق وأتباع الأديان، وتنشر صورته المشوهة بأنه دون البشر الآخرين الوغد، والقاتل، والارهابي، والمتخلّف، وهذه الصورة للعربي المسلم تبدأ مع أفلام الأطفال التي يشاهدها الطفل الغربي، وتنتهي بالأفلام الكبرى التي تنتجها هوليوود، ولا أعلم أي عرق من البشر يتمّ التعدي على هويته، وكرامته، وصورته، في السينما الأميركية كما يتمّ الاعتداء على العرب.
والمفارقة الصارخة، هي بين صورة العربي هذه في السينما الأميركية خصوصاً، والغربية عموماً، وبين الأموال الرسمية العربية التي تنفق سنوياً بسخاء على مهرجانات السينما دون تحقيق الفائدة المرجوة منها. فقد بدأت مهرجانات السينما في الولايات المتحدة، وأوروبا كأسلوب لتسويق الأفلام التي ينتجونها وبيعها وتحقيق الأرباح التي تساعدهم على الاستمرار في الانتاج وتطويره، أما أن تبدأ مهرجانات السينما بالتكاثر في العالم العربي، أحياناً دون أن تكون الدولة المستضيفة قد أنتجت فيلماً واحداً تطمح الى تسويقه، فهذا أمر غير مفهوم، سوى أنه يقع في باب التقليد الأعمى لما يفعله الغرب ودوائره، حتى وإن اختلف الواقع، والمعطيات، وحاجات هذا الواقع ومتطلباته. إذا كان العرب ينتجون المسلسلات الدرامية، فلماذا لاتنشر صورة معاناة العربي المسلم من الإرهاب والحروب الغربية التي يتعرض لها الملايين من العرب منذ أكثر من قرن على يد «المتحضرين» الغربيين، ومستوطني « واحة الديموقراطية « في الشرق الأوسط؟ ولماذا لاتركز المهرجانات السينمائية العربية عليها؟ ثم لماذا لاتُقام المهرجانات لما نبدع نحن به ونحتاج الى تسويقه وتأكيد أهميته للأجيال الصاعدة؟ ثم لماذا كل هذه المهرجانات السينمائية، والتي أخذت أيضاً تتوالد في عواصم ومدن عربية وبأوقات متقاربة، وأساليب متشابهة، وواقع سينمائي متردٍ في معظم الحالات؟ كم سيكون الوضع أفضل لو قرر القائمون على مهرجانات دمشق، ودبي، والقاهرة، ووهران، وبيروت، وأبو ظبي، والدوحة، والاسكندرية، وقرطاج، والرباط، ومراكش، وغيرها الكثير، الاتفاق على إقامة مهرجان سينمائي عربي واحد في العام في إحدى هذه المدن، بحيث يدور المهرجان كل عام في إحدى هذه العواصم والمدن العربية، وتحشد كل الامكانات والطاقات لإنتاج الأفلام العربية ذات المحتوى الفني والسياسي الغني، كما هي الحال مع فيلم « قرار رئاسي»، وتسويقها ضمن استراتيجية عربية واحدة، تأخذ بالحسبان إنتاج الأفلام العربية التي تستطيع أن تضع الإنتاج السينمائي العربي على الخارطة العالمية، بدلاً من الاكتفاء بالتنافس بين مدينة عربية وأخرى، على عرض أفلام أجنبية في مهرجاناتها، وهو تنافس عربي تقليدي يعزز في معظم الأحيان القطرية، ويتبنّى معايير بعيدة عن الموضوعية، ولاعلاقة لها بالعالمية.
لاشك أن العرب يمتلكون من المواهب والابداع ما يغرق أعداءنا بشرّ أعمالهم، وضحالة أكاذيبهم، وبشاعة إجرامهم، إذ لايحتاج العالم اليوم الى شيء سوى أن يعرف ماهي حقيقة هذا الصراع.
كلّ يوم يروي فلسطيني قصة شهادة، وبطولة، وانتماء، جديرة بأن تشكّل مادة خصبة للفنانين، والمبدعين، والمنتجين الحريصين على قضايا أمتهم، ولكن هذا الواقع، يحتاج الى رؤية جديدة تطمح الى ايصال الفيلم العربي الى المواقع العالمية، بدلاً من التنافس ضمن جدران مغلقة بعيداً عن التأثير الحقيقي على الرأي العام العالمي. ويمكن توظيف الجهود والامكانات في المكان الصحيح الذي يعود، ليس فقط بالفائدة والربح على المنتجين والمستثمرين العرب، بل يساهم أيضاً في تصحيح الصورة البشعة المليئة بالكراهية للعربي المسلم، التي يُكرّس الصهاينة أموالاً طائلة لنشرها في العالم.
د. بثينة شعبان
المستشارة السياسية والإعلامية في رئاسة الجمهورية العربية السورية