مها بدر الدين / «ويكيليكس» وسرّية العمل الديبلوماسي

1 يناير 1970 01:31 ص
نزلت علينا تسريبات «ويكيليكس» وكأنها المطر الغزير في غير موسمه، صدمتنا وثائقها وفاجأتنا حقائقها وأربكت فينا العقل والضمير، وأمادت الأرض للحظة تحت أقدامنا حتى كادت تبتلعنا رمال السياسة المتحركة التي لا قرار لها.

وقد أحرجت هذه الاختراقات والتسريبات الحكومة الأميركية أمام دول العالم التي تغرس في أراضيها مسمار جحا الأميركي المسمى ديبلوماسياً «السفارة»، والتي تعتبر نواة الاستخبار التي تقوم على أكتافها أجهزة الاستخبارات لأي دولة، وأصبحت هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الأميركية كالحمامة المترنحة التي أصابتها شظية من رصاصة طائشة تتحرك منتفضة بكل اتجاه، وتسرع للاتصال بقادة ورؤساء الدول التي طالتها تلك الوثائق، لتؤكد لهم أنها ستلاحق قضائياً المتسبب في تفشي الأسرار الديبلوماسية المخزّنة في أرشيف وزارتها، رأباً لأي صدع قد يسببه هذا الويكيليكس في العلاقات العميقة والمصالح المشتركة.

ورغم تركيز هذه الوثائق على منطقة الشرق الأوسط وبالتحديد الدول العربية، إلا أنها لم تحرج الحكام العرب أمام شعوبهم رغم ما حملته من معلومات وحقائق تؤكد أنها شعوب مغيبة سياسياً ومسيّرة مصيرياً، وأن الكثير من الاتفاقات السرّية والتنازلات السياسية تمرر من تحت الطاولة ثمناً لمصالح شخصية بحتة يتعلق أغلبها بالحفاظ على كراسي الحكم لحكامنا حاضراً ولأبنائهم مستقبلاً.

لقد استطاع ويكيليكس نشر الآلاف من الوثائق السرّية المتفاوتة في أهميتها من حيث المضمون أو المدلول، إلا أنها في النهاية ليست وثائق متداولة بين دولتين أو ممهورة بأختام معتمدة، بل هي عبارة عن إما وثائق تخص طبيعة العمل الديبلوماسي للسفارات من حيث نقل الاخبار والمعلومات والتحليلات والمعطيات والأحداث من الدول الموجودة بها، إلى الجهة التابعة لها والمتمثلة بوزارة الخارجية في الدولة الأم للاستفادة منها والاعتماد عليها في صياغة خطوط سياستها الخارجية تجاه هذه الدول، أو أنها وثائق تعبر عن وجهة نظر وزارة الخارجية الاميركية تجاه هذه الدول من حيث مكانتها على خريطة السياسة الخارجية، وأهميتها للمصالح القومية، ودورها في الحبكة السياسية الأميركية، وقد يكون هذا هو السبب في إحراج الحكومة الأميركية ووزارتها الخارجية أمام المجتمع الدولي وعدم الإحراج العربي الشديد لسهولة التنصل من هذه الوثائق والتنكر لها وإنكارها اعتماداً على أحادية الاتجاه.

لعله من المعروف أن العمل الديبلوماسي يتطلب قدراً كبيراً من السرّية ومن الاتصالات الديبلوماسية الخفية وغير المعلنة، وأنه يحق للقائمين على الشأن الديبلوماسي متمثلاً بوزارة الخارجية، أن يحتفظوا بأرشيفهم السري للغاية على كل الوثائق السرّية المهمة، التي تمكنهم من استخدامها في الوقت المناسب وبما يخدم سياستها الخارجية، ومن البدهي أن حماية هذه الوثائق المهمة يجب أن تكون على قدر عال من الأهمية تفوق أهمية الوثائق نفسها، لأن في تسريبها تشويهاً لسمعة الأمن الداخلي في أميركا من ناحية وفقداً للثقة الدولية بقدرتها على حفظ الأسرار الدولية من جهة أخرى.

فهل يعقل أن يكون هذا غائباً عن المسؤولين في وزارة الخارجية الأميركية لدرجة تمكن ضابطاً صغيراً بعمر الثانية والعشرين من الاطلاع عليها، وهو الذي يفتقر للخبرة الديبلوماسية والوعي السياسي وهو ما دفعه للتعامل مع هذه الوثائق ونسخها حباً للمغامرة والتشويق وهو ما يميز الشبان في هذه السن الصغيرة، وهل يعقل على مدار ثمانية أشهر من تواجده في هذا المكان المهم من وزارة الخارجية لم يتمكن أحد من مخضرمي المعلوماتية في الوزارة من كشف هذا النسخ الذي يحصل على أقراص مدمجة لولا اعتراف شريكه.

وهل يعقل أن يستطيع جوليان أسانج صاحب الموقع المذكور نشر هذا الكم الهائل من الوثائق على موقعه بحجة حرية الرأي وحرية تداول المعلومات، دون أن تستطيع الحكومة الأميركية من إيقاف التدفق المستمر لسيل الوثائق المسرّبة، أو إيجاد أي سبب منطقي لملاحقته قضائياً وهوالذي أضر بمصالحها وأحرجها مع حلفائها، وهل يعقل أن يمتلك هذا القرصان الالكتروني والارهابي التكنولوجي كما وصفته الأوساط الأميركية، الجرأة والشجاعة الفائقة التي تتطلبها مثل هذه الخطوة الكبيرة دون أن يجد باباً موارباً له، أوضوءاً صغيراً أخضر مضاء له؟

لو أمعنا النظر في طبيعة الوثائق المسرّبة والدول التي تخصها، نجدها تتركز في الشرق الأوسط عامة والمنطقة العربية خاصة، وقد نالت الحرب على العراق وأفغانستان النصيب الأكبر من هذه الفضائح، بالإضافة إلى دول مهمة في المنطقة مثل مصر وسورية وتركيا وإيران، وهي الدول المحورية في المنطقة الأكثر أهمية بالنسبة للمصالح الأميركية، كما أن توقيت نشر هذه الوثائق جاء بوقت تغلي فيه المنطقة على صفيح من نار وتتفاوت فيه الأحداث بين تداعيات حروب، وانقسام دول، وفساد حكومات، واحتقان شعوب، وحوارات طائفية، وانقسامات مذهبية، لتزيد الطين بلة وتوسع الفجوات القائمة بين الحكومات العربية والشرق أوسطية من جهة وبين الحكومات وشعوبها من جهة أخرى.

وهو ما يثير التساؤل حول حقيقة «ويكيليكس» هل هو موقع لإنقاذ الإعلام وإطلاق حرية تداول المعلومات والمعارف؟ أم أنه فصل من فصول المسرحية الأميركية الهزلية التي تعرض على مسارحنا، نُقبل عليها مرغمين، ونتابعها مزعنين، ونخرج منها حانقين وللغيظ كاتمين؟





مها بدر الدين

كاتبة سورية

[email protected]