رؤى / كم ذلّ أقوام بذلِّ لغات
1 يناير 1970
05:10 ص
| د. محمد حسان الطيان |
لي زميل أكاديمي وقاك الله شر الكدمات- تعلم في بلاد الإفرنج، ونهل من لغة العلوج، فافتتن بها وانبهر، ونسي بل تناسى أصله ولغته، فتراه كلما تكلم في اجتماع جامعي، رطن بلغة الإنكليز** وخلط ركاكته العربية بكثير من فصاحته الإنكليزية تعالياً على زملائه، و استخفافاً بمن لا يتقن الإنكليزية منهم، وجرياً وراء أولياء نعمته الذين انتشلوه من ظلمات الجهل وطُمَّتِه، إلى نور العلم وسَعَته.
وهو لا يعني في اتهام العربية بكل قصور، واتهام مناهجها بالعسر والاستعصاء على الفهم، ويطالب بتدريس كل العلوم والآداب والفنون بالإنكليزية، حتى لقد قلت له مرة لو أسند إليك تدريس العربية لدرَّستها بالانكليزية فهز رأسه مستنكراً، لأنه لا يعرف العربية ولا يريد أن يعرفها ولا يطيب له أن يعرفها.
على أن زميلي هذا- والإنصاف شريعة- أوتي خفة في الروح وظَرفاً في الكلام وبدهية حاضرة مسعفة جعلته يسخر ممن حوله دون أن يرعى في أحدٍ إلّاً ولا ذمّة، غافلاً أو متغافلاً عن أن المولى الجليل عزّ في علاه نهى عن هذا أشد النهي حيث قال في محكم كتابه:
{يأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء عسى أن يكنَّ خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون} (الحجرات 11).
ويمعن هذا الزميل في كبره وتعاليه، فتراه يتشاغل حين يتكلم غيره، بجوال في يده أو بجريدة إلى جانبه، دون أن يراعي أدنى درجات أدب الحديث الذي رضعناه مع لبان أمهاتنا، بل دون أن يراعي أدنى حدود الذوق وفن الإتكيت الذي يفترض أنه قد رضعه مع لبان اللغة الإنجليزية التي تأدب بها وبأهلها.
سألني مرة- طلباً للاستظراف وإمعاناً في الاستخفاف- عن معنى لقبي «الطيان»، فأعادني أربعين سنة إلى الوراء أو أكثر، حين كان بعض أهل الرعونة من أترابي في المدرسة يعيرونني بلقبي، فينهرهم المعلم أشدَّ النهر، ويزجرهم عن غيهم حتى يعودوا إلى الرشد، بل إن أحد المعلمين- والله على ما أقول شهيد- نهى التلاميذ عن أن ينادوني باسمي أو لقبي- إكراماً لي وتقديراً لاجتهادي- وكناني بأبي رضوان، فبات أصحابي لا ينادونني إلا بهذه الكنية على مذهب الشاعر العربي حيث يقول:
أكـنـيـه حـيـن أنـاديـه لأكـرمـه
ولا ألـقـبـه والســوءة الـلـقـبـا
كذاك أدبت حتى صار من خلقي
إني وجدت ملاك الشيمة الأدبا
وأردت أن ألقِّن هذا الزميل درساً في ثراء العربية وسعتها وجمال تصرفها فقلت: إن معنى «الطيان» الذي يعرفه كل الناس ولا يجهله من كانت عنده أدنى مسكة من فهم، هو الذي يعمل في الطين، والطين أصل الإنسان الذي إن نسيه تاه وعربد، وطغى وفجر، وبغى واستكبر، وقد نبَّه رب العزة جل وعلا من استعلى على هذا الأصل حيث قال جل من قائل: {فاستفتهم أهم أشد خلقاً أم من خلقنا إنا خلقناهم من طين لازب. بل عجبت ويسخرون. وإذا ذكروا لا يذكرون} (الصافات 11_ 13).
وأشار إلى ذلك شاعرنا المهجري إيليا أبو ماضي:
نسي الطين ساعة أنه طيـ
ن حقير فصال تيها وعربد
وكسا الخز جسمه فتباهى
وحوى المال كيسه فتمرد
يا أخي لا تمل بوجهك عني
ما أنا فحمة ولا أنت فرقد
ثم تابعت قائلاً: أما الذي لاتعرفه أنت ولا أمثالك ممن استخفهم بريق الإنكليزية، وجهلوا لغتهم، وتبرؤوا من عروبتهم فهو أن (الطيان) صيغة مبالغة من طوى يطوي طيّا إذا لم يأكل شيئاً، وهي صفة حميدة طالما تغنت العرب بها، لأنها غالباً ما تلصق بالكريم الذي يطعم غيره ويؤثره على نفسه ويبيت طيّان أي طاوي البطن لا زاد في بطنه، قال ابن شهيد الأندلسي:
إن الكريم إذا نالته مخمصة
أبدى إلى الناس شِبْعاً وهو طيانُ
وقال ابن نباته السعدي:
طَيّانَ أبذُلُ للصّديقِ مَدائِحي
وأصونُ عن عِرضِ العدوِّ سِبابي
وقال أبو العلاء المعري:
طال صبري فقيل أكثم شِبعا
نُ وإني لمنطوٍ طيــّانُ
وقال العوراء الذبيانية:
طيان طاوي الكشح لا
يُرخي لمظلمة إزارُهْ
يعصي البخيل إذا أرا
دَ المجد مخلوعاً عذارُهْ
ثم ختمت قائلاً: ولك أن تضيف معنى ثالثا لهذه الكلمة، وذلك بأن تثني كلمة «طيّ» وهي مصدر الفعل طوى يطي، فتقول : هذا طيٌّ، وهذان طيّانِ. وما أجمل الطيّ في رائعة ابن الفارض:
سائقَ الأظعانِ يَطوي البيدَ طَيْ
مُنْعِماً عَرِّجْ على كُثْبَانِ طَيْ
وبعد فهذه لغة العرب التي جافيتها، فارجع البصر هل ترى فيها من فطور؟ ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير، ولتعلم أن المرء مهما تعلم فهو بحاجة إلى المزيد، وما تعلمت مسألة إلا ازددت علما بجهلي.
فقل لمن يدّعي في العلم معرفة
عرفت شيئاً وغابت عنك أشياء
وإذا أنت لم تعِ ذلك كله _ وما إخالك واعيَه _ فليس لك عندي إلا ما قال مهيار الديلمي:
وإلام طول رضاي بالميسور من
حظّي وفرط تعفُّفي وتقنُّعي
طيانَ أبغي الرفد بين معاشرٍ
حب العلا في طينهم لم يطبعِ.
* منسق مقررات اللغة العربية بالجامعة العربية المفتوحة