نادين البدير / اهرب إلى العزلة

1 يناير 1970 01:21 م
| نادين البدير | أشغلتنا المدنية كثيراً، فما عدنا نرى دواخلنا. صار تركيزنا على تفاصيل القلق اليومي يشغلنا عن الانخراط بكشفنا وإيجاد تفسير واضح لذواتنا.

نحن لا نصمت. نتحدث كثيراً. لا نصدر أصواتا بل ضجيجا. كيف نخلق الصوت إن لم نمارس طقس الصمت؟

حياتنا صاخبة. الناس في كل مكان، محشورون في كل زوايا أمورك. تبتعد عنهم قليلاً فينعتوك بالمنعزل والمنطوي. لكني أرى بفعل الانطواء والانعزال لفترات مختلفة وسيلة مربحة لتحقيق الكمال الروحي والإنصات للصوت الداخلي بوضوح ودون الحاجة لمكبرات، وسيلة فعالة للتعرف على الوحش الساكن فينا كي لا نقترف الجريمة.

فوائد الانعزال كبيرة. العزلة تحميك من الاستسلام لأنها تعيدك لخلقتك الأولى ولصفاء عقلك البدائي الطيب الشرير المهووس الثائر. بعد وقت منعزل ستدفعك عذريتك الجديدة للتفكير بالآخرين بطيبة وعطاء وقد تتمنى الخير للمنافسين. ستكتشف أن جمال الشر يمنعك من الاستسلام لأذية البشر.

اهرب واعتزل. اهرب من استبدادية العلاقات اليومية العادية. لكن لا تنعزل وتسكن، بل ابحث وانبش. اعتزل حتى تدخل في حالة تنفصل بها روحك عن جسدك فتصبح غريبا عن نفسك، وتبدأ التفكير بملذات لم تسمع بها من قبل، وتتمنى أمنيات حالمة لم تحلم بها من قبل، حالة مسكرة تخرجك من الوجود وتعلقك بالغيوم. ترفعك عن الأرض بسلالم روحانية فضفاضة آمنة.

أن تعيد ما بدأه الغير أو تكمله فهو أمر سهل يمكنك الوصول إليه وأنت منخرط في حياتك اليوميك، باستطاعتك وأنت تفكر بشؤونك المهنية والعائلية أن تبتكر في ذات الوقت أشياء بدهية جديدة يمتدحك عليها الآخرون وتنال بها رضا الرؤساء.. لكن أن تخلق وتكون الإله الوحيد لأفكارك أو صناعتك، يعني أن تترك عجلتك اليومية تتوقف. تركنها جانباً على الاسفلت الصناعي وتدخل الغابة سيراً على قدميك الحافيتين. دع أطرافك تشعر بملمس الأرض من تحتك، دعها تندمج مع أصلك الترابي في مشيتك البدائية. هنا تتولى الطبيعة أمر تعميدك. هنا يتولى الصمت ركود ضجيجك، وتتفرغ خلاياك لخلقك الجديد. اللاوعي سيكون هو الخالق.

سيمدك الله بأسراره كما مد أنبياءه الذين تميزوا بعزلتهم واعتكافهم فترات طويلة وحيدين مع شهواتهم المعرفية لكشف الكون.

سيقولون انها نزعة للتصوف، وسيقول المدافعون عن عفة وحشمة عقل الإنسان ان في التصوف كفراً، ويصنفون الدخول والخروج من وإلى اللامحسوس تحت خانة البدع والضلال. لعله كفر بتقاليد المدنية لكنه إيمان أصلي بالروح. روح الله، الإنسان، التراب، روح السماء. هو إحساس بلذة الوجود، بلذة إنكار كل شيء. محو كل شيء والبدء من جديد. انحراف عن المسلمات. استمتاع بتلقي المعلومات من العالم الذي يسكن بيننا وتمنعنا التقاليد من رؤيته. تحرير للنفس المعذبة من شجونها الساذجة ونقلها للكمال الروحي. لمرحلة راقية من السعادة.

بالطبع الكلام السابق ليس حديثاً، فعديدة هي الأديان التي يمارس أناسها طقس العزلة والتأمل، وكثيرون يرون فيه قدرة على حياكة الإبداع. لكني أكتبه لأن منطقتنا تعاني من ضعف الإبداع وتعاني من انصراف أفرادها عن التفكير المنحرف. أحد أسباب خللنا أننا لا نخلد للسكون ولا نكترث لصوتنا الإلهي.. منشغلون في اللقاءات والتظاهرات والدعوات والندوات والوظائف والأهل والجيران والتعليم والكلام الكثير. نمارس كل الأشياء التي يمكنها أن تصرفنا عن الإبداع. نتعذر بالمسؤولين وبعقد الطفولة وبالأوضاع الاقتصادية وبانعدام جو الحرية.. كله صحيح لكنه غير مقبول. تذكروا أن كل العظماء والمبدعين عبر التاريخ عانوا مرارات حزينة ولم تكن أيامهم حنونة بل قاسية. كانت تجلدهم كل يوم. وحين يقرأهم الذين تجرفهم العذابات سيعلمون أن هناك حياة أخرى تنتظرهم لكنهم يغضون الطرف عنها منغمسين بعلاقاتهم اليومية.

تناس الهموم واعتزل. لا تقتل إبداعك بكثرة الصعود للمسرح لإلقاء الكلمات. ابتعد عن مسرح الكلام وعن الاجتماعات كي تأتي بالجديد ولا تتحول إلى فرد فارغ وممل ينهج نهج الكثير من العرب الدخلاء على الإبداع.

يجتمع المبدعون العرب، الذين لم يبدعوا شيئاً أبداً، كل عام مرات عدة لمناقشة القضايا العربية. يتسابقون على الصعود للمسرح لحل أزمات الإنسان العربي ومصائبه التي لا تنتهي. يتساءلون بفوقية غبية عن أحوال البقية، ولا يملون من تكرار سؤال سقيم واحد: لماذا ابتعد العرب عن الإبداع؟





كاتبة وإعلامية سعودية

[email protected]