عماد الشامي / النعش الطائر
1 يناير 1970
11:39 ص
كثيرا ما كانت تستهويني حكايات جدتي وأنا طفل صغير، عن الاساطير القديمة والخرافات المتداولة عرفا بين الناس، كالحكايات عن المارد الجبار، ومغامرات (ابورجل مسلوخة) وكنت ادقق السمع والانتباه لحكاية النعش الطائر، والذي غالبا ما يكون صاحبه مشتهرا بالصلاح بين الناس وكذلك طيبة القلب، وعندما يحين موعد موته، ويحمله أقرانه على أعناقهم في نعش إلى مثواه الأخير، وبينما هو كذلك اذ به يتوجه بهم إلى حيث يريد، فهو تارة يتجه إلى ناحية اليمين، وأخرى يسارا ضاربا بكتب وتعليمات المرور عرض الحائط، ويشق طريقه عبر الحقول بمشيعيه قبيل حلول موعد الحصاد، فيتلف الاخضر واليابس، ولا يمتعض احد بل يهللون ويكبرون (بركاتك يا عم الحج). وكنت استوقف جدتي عند هذه الحكاية بالذات سائلا اياها ما يراودني في كل مرة: ما هو ذنب اصحاب الحقول التي داستها اقدام الناس، فهلك محصولهم وهم على مقربة من جني الحصاد، وماذا كانت تصرفاتهم حيال ذلك؟ فيكون الجواب صادما منها، ومفاجئا لمنطقية العقل الذي ما يزال في عمر الزهور، بأن الناس كانوا (يتبركون) بذلك معتقدين ان البركة قد حلت بأرضهم، بل يحسدهم الناس الذين لم يمر النعش الطائر بأرضهم... وغالبا ما كانت تداهمني الكوابيس في منامي اثر هذه التراهات الفارغة، وكان يعاقبني النعش الطائر على نشر هذا الاعتقاد، بأن يطاردني في منامي بالهرولة ورائي، إلى ان تخطيت المرحلة الصبيانية، فقمت بطرد معتقد النعش الطائر من يقظتي ومنامي، الا انني وفي غضون الايام القليلة الفائتة، وبعد اربعين عاما، قد عاودتني (كوابيس النعش الطائر) بل والله لقد تحولت من خيال إلى حقيقة، فأصبحت أرى وأسمع في يقظتي وبصورة تكاد تكون يومية عن تلك النعوش الطائرة ذات الموديلات الحديثة، والتي تتخطى بسرعة هائلة مواكب الآمنين، ضاربة عرض الحائط بقيمة وكرامة النفس الانسانية عند خالقها، فضلا عن عدم مراعاتها لابسط قواعد المرور، فتكون النتيجة النهائية والمحتومة مزيدا من النزيف البشري على (الاسفلت)، وتفسد كذلك الاخضر واليابس.
لم يكد يخلو يوما الا وتداهمنا النشرات الاخبارية بتصادم مروري هنا، او انقلاب مركبة هناك، ناهيك عن الوفيات الناتجة عن حوادث السير، والتي تطالعنا بها احصائيات وزارة الداخلية وقد اصبحت على وتيرة متزايدة ولاسيما في الايام القليلة الماضية.
وإذا كان قائد هذا النعش الطائر غير عابئ بنتيجة رعونة تصرفاته، والقيادة الجنونية لسيارة امرها ليس بيدها، لاتهيبه نهايته، ولاتحده اشارة ضوئية، مستقلا نعشا طائرا، فان النتيجة في الغالب الاعم اما ان يموت وإما يميت غيره، وإما يتسبب في ان يفقد بريئا ذاكرته الجميلة، او يخرجه على المعاش النهائي من وظيفته التي يجيدها، او حتى من وسط اسرته، وطفلته الصغيرة التي مازالت تنتظر عودته على طاولة الغداء... ولن يعود.
ان الناصحين يقيمون المؤتمرات، ويعقدون الندوات، ويتبادلون الخبرات، ويقدم العقلاء من الناس والمتخصصون منهم الابحاث المعنية بالقضاء على الاوبئة المتوطنة، والامراض المزمنة والتي قد تؤدي بصاحبها إلى الوفاة لان جموع الناس يخافونها، ويرصدون في سبيل ذلك المبالغ الطائلة، فما بالنا اذا كانت نسب الوفاة الناجمة عن الحوادث المرورية تفوق اضعاف تلك التي تحدثها بعض هذه الامراض، ناهيك عن العاهات المصاحبة ان نجا صاحبها من الموت. لقد حبا الله دولة الكويت بشبكة من الطرق ذات شهرة عالمية من حيث مراعاة سبل الوقاية والامان، بالاضافة الى رجال ينتمون إلى كتيبة مرورية لا يألون جهدا نحو القيام بواجباتهم الوظيفية، ويلقون كل الدعم من الجهات المعاونة، ولم يتبق سوى ان يراعي قائدو النعوش الطائرة ضمائرهم، لقد بات ملحا تضافر المجهودات كافة، وعلى شتى مناحي الاصعدة لايقاف ومداواة هذه الجراح.
ورحمة الله على شهداء نزيف الاسفلت الابرياء، الذين ليس لهم ذنب سوى انه تعرض لهم سائق طائش حديث السن، او كبير السن متهور، ورحم الله جدتي صاحبة حكاية النعش الطائر والتي قضت في حادث سير.
عماد الشامي